الدماء تسيل متناثرة بالمكان الموحش لاسيما الجدران المطبوعة بكف يد غارق بالدماء، وبين ذهول الأطفال ونظراتهم التى تتأرجح ما بين الخوف والانتظار وضحك الرجل الكبير عميق العينين كث اللحية ذو الجلباب الملطخة بالدماء فتظهر أسنانه المائلة كثيرًا للصفرة والتى تباعدت عن بعضها بمسافات هائلة، القائم بعملية الذبح، هناك صوت هادئ يتحدث:
لا تخافوا أيها الصغار سيوزع اللحم الطيب الآن وتذهبون به لأمهاتكم لتعده للطهى عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير... تلك جملة "حسان" المعتادة كل عيد أضحى حين يذهب لبلده والده المتوفى الصغيرة التى تقع بإحدى ضواحى القاهرة القديمة، اعتاد حسان كل عام على زيارة قبر والده صباح أول أيام عيد الأضحى ثم الذهاب لبيت العائلة القديم للتجهيز للأضحية وتوزيع اللحم على الفقراء والتصدق على روح والده، تلك عادته التى لم يتخل عنها أبدا منذ وفاته، لكن هذا العام تحديدًا كان حسان فى شتاتٍ من الفكر والتيه.. وحكايته بدأت منذ تلاثة أعوام بنفس التوقيت، كان حسان عند زيارة قبر والده كالمعتاد بعيد الأضحى، ظهرت لأول مرة إمرأة شابه تقف عند حافة قبر آخر من الواضح أنها جائت هى الأخرى لزيارة عزيز لديها، كانت تتابع حسان بعيون تتوارى وراء نظارة سوداء دون أن يلحظها، وتكررت التجربة لعدة مرات، فى كل مرة يذهب حسان يجدها أمامه، ترتدى معطفا رماديا وطرحة سوداء وفى العام الثاني لاحظ حسان حين قدومه من بعيد أنه يراها تقف أمام قبر والده وتبكى!!! وحين اقترب تحركت نحو القبر الآخر، كان يتآكل من الفضول متسآئلا فى نفسه...
- مَنْ تلك الفتاة؟ ولماذا تقف جانب قبر والدى وتبكى وحين اقترب منها تتجه نحو القبر المقابل حتى أشعر أنى رأيت سرابًا؟ لن أبرح مكانى هذا حتى أفهم ما يحدث...
- حسان: آه.. معذرة هل كنتِ تعلمين أبى؟
- المرأة: أجل.. كان صديقا لوالدى وبعد وفاة والدى هوالآخر جئت لزيارتهم معا.
- حسان: ومن هو والدك؟
- المرأة بغموض: شخص لن يمكنك أن تتذكره لكنه يعرفك جيدا!.
يرن هاتف "حسان" فجأة فيستأذن المرأة للرد ويلتفت عنها بظهره
- حسان: أجل لن أتأخر وسأعاود الإتصال بك.. مشغول الآن.. مع السلامة
ويلتفت "حسان" ثانية بظهره فإذا بالمرأة غير موجودة بالمكان كله كأنها اختفت وذابت أوربما لم تكن موجودة من الأساس
- حسان بصوت عال: ياااااا .. أين ذهبتِ؟
ينصرف حسان وهو فى حيرة من أمره.. من هذه السيدة؟ ولماذا اختفت هكذا؟ الأمر مريب حقا ورغم مرور الوقت لم ينس حسان ما مر حتى تكرر نفس الحدث ولكن هذه المرة كان لديه تصميم حاد ليفهم ماذا يحدث بالضبط؟!..
-حسان: من فضلك.. لم يكتمل حديثنا السابق واختفيتِ فجأة، قلتِ لى أن والدكِ كان يعرف والدى ويعرفنى أيضا.
-المرأة: أجل وأنا أيضا أعرفك منذ زمن.
-حسان باستغراب: أنتِ مثيرة للفضول وتتحدثين بالألغاز كثيرا!.. هل يمكننى أن أرى وجهك دون تلك النظارة السوداء؟
-المرأة (تخلع النظارة): لا عليك.. وهذا هو وجهى.
- حسان يحدق لها بتمعن: شعور غريب كأنى رأيتكِ من قبل.. هل حقا كنتِ تعرفينَنى أو تقابلنا قبل ذلك؟
- المرأة تتحرك سريعا للخلف: سأخبرك لكن ليس الآن.. لابد أن أنصرف.. سنعاود اللقاء.
- حسان يتحرك نحوها بسرعة دون أن يلحقها: إنتظرى قليلا من فضلك يااااا.. ما هواسمك؟
- المرأة بصوت من بعيد: خلووود إسمى خلود..
وإنصرفت مسرعة بشكل رهيب أثار فى نفسه الدهشة وقليلا من الخوف.. تُرى ما هى قصتها؟!..
كان "حسان" معتادًا أن يجلس بمقهى لمجالسه أصدقائه عند نهاية كل اسبوع لكن هذه المرة آثر أن يجلس وحده وكان مسلوب الفكر شارد الذهن حتى لاحظ كل من
كان حوله أنه فَضّل الجلوس على حِده فإقترب منه أحد أصدقائه المقربين محادثا إياه:-
- ماذا بك اليوم يا حسان أنت معنا وكأنك لست هنا؟
- حسان يجلس جانب النافذة وقبل أن ينطق بكلمة رأى إنعكاسا لصورة الفتاة (خلود) على زجاج النافذة فهب من مقعده مفزوعًا محاولاً البحث عنها بكل أرجاء المكان دون أى جدوى وسط ذهول الحاضرين..
صباحات جديدة متوالية الأعمال وفى غمرة الإنشغال لم يغيب عن بال حسان ما رآه، كان دائم البحث عن شئ مجهول للجميع، يبحث عنها ببصر زائع حتى وآتته فكرة الذهاب للمقابر حيث رآها من قبل، رغم أن مقابر العائلة توجد ببلدة بعيدة عن محل إقامته إلا أن ذلك لم يعيقه من الذهاب آملا أن يلقاها غير أنه وكما يقال "عاد بخفى حنين" لقد إنتظر كثيرا بالمقابر ربما تأتى، لكن من الواضح أنها لن تأتى أبدا وما عليه أن ينسى الأمر برمته، لقد عاد فى المساء بعد أن أنهكه التعب والإنتظار بين لحود المقابر طيلة اليوم ودخل فى سبات عميق...
بدأت خيوط الليل بالإنصهار شيئا فشيئا وقبل أن تداعبها أنوار الصباح ظهرت "خلود" لتهمس بصوت مبحوح:( لا تتركنى.. لا تتركنى) فيستفيق "حسان" فى فزع ويدرك أنه كان يحلم ثم يعود لوعيه فى بداية يوم جديد، إنّ الأمر إنْ لم يضع له حدًا سوف يهوى به للإنهيار بل للجنون، لابد له من النسيان وعدم البحث وراء السراب لكنك إن جاهدت فى نسيان شيء فمن المؤكد أنك ستنسى كل الاشياء عداه..
دارت الأعياد وجاء عيد الأضحى المقبل وحدث ما كان يتمناه حسان، هى هناك تقف أمامه من بعيد بين قبر والده ووالدها، كانت نبضات قلبه حينما إندفع نحوها توشك على التوقف ثم الانفجار إلى أن وصل حدها بأصوات أنفاس تكاد أموات المقابر من حولهم تسمعها..
- حسان بأنفاس حادة: أين إختفيتِ كل تلك المدة؟..
كنتُ دائم البحث عنكِ.
- خلود: أعلم!.
- حسان بتعجب: كيف تعلمين؟ ماذا يعنى ذلك؟
- خلود: إهدأ.. سأجاوب على كل تساؤلاتك.
- حسان: أتمنى..من فضلك
- خلود: لقد كان والدينا صديقان متحابان فى الله وكنا نتزاور قليلاً جدًا، وجوهنا لم تتقابل إلّا للحظات، كنتُ اراكَ بأحاديثِ والدك عنك فقط فتعلقت بك.
- حسان: أشعر أننى رأيتكِ فى زمن لا أتذكره لكنك فى ذاكرتى كالمجهول.
- خلود: أنت تزوجت وإبتعدت عن الجميع منذ زمن ولم يتبقى معى غير صور تجمع أبوينا وكنتُ قد عثرت على صورة لكَ إختلستها ودسستها بين الصور واحتفظت بها.
- حسان: منذ الوهلة الاولى وأنا أشعر بالإنجذاب نحوكِ لكنكِ غامضة وأحيانا مخيفة، أما عن زواجى فقد ارتبطت بزوجتى فى ظروف غريبة...
- خلود مقاطعة حديثه: أعلم كيف تزوجت وكيف كان لأهل زوجتك السلطة والنفوذ التى اجبرتك على الزواج منها لكنها تّحبك كثيرًا
- حسان: لم أشعر ولولمرة بأية عاطفة نحوها كنت دائما أحاول الإبتعاد عنها لكنه القدر .
- خلود فجأة: سأذهب الآن ولا تحاول البحث عنى.
- حسان بتوتر: انتظرى .. لا تذهبى قبل أن تخبرينى متى سنتقابل؟....
كان حسان يركض ورائها كالطفل المهووس إلى أن تلاشت من أمامه واضمحلت رؤيتها تماما كما لوكانت سحب السماء سقطت حوله على الأرض وأصبح لا يرى شيئا سوى أبخرة وغبار نصب عينيه، ذهب إلى بيته فى يأس وبقى على حاله لا شىء يشغله سوى البحث والتأمل ربما يجدها وقد أقسم أنه لن يتركها تضيع من يده بعد ذلك، ظل يفتش بين أوراق والده القديمة ربما يعثر على مفتاح ذلك اللغز إلى أن وجد صورة قديمة تجمع والده بوالد خلود وكانت هى على جانب الصورة تظهر متضحة المعالم وأعتبر حسان أنها البداية ربما ستكون بداية شىء تعيس أومفرح لكنها البداية ولا يعلم ما الذى ينتظره فى الغيب..
مع صباح جديد يستيقظ حسان على صوت زوجته:-
- زوجة حسان: كنتَ تهزى أثناء نومك وتتمتم بصوت مسموع إلى حد ما لتنادى بإسم خلود.
- حسان بضيق: أتغاث أحلام..
- زوجة حسان ممسكة بالصورة التى بها خلود والتى كان يخفيها عنها: أتقصد خلود التى هنا بالصورة؟
- حسان بتوتر وغضب منتزعا الصورة من يديها: وما شأنك أنتِ؟ ليس من حقك أن تعبثين بخصوصياتى وأشيائى.
- الزوجة بإستهزاء وقوة: ليس من حقى؟؟ تعال معى لدقيقة..( وتسحبه من يده)
- حسان: إلى أين تسحبيننى هكذا؟
- الزوجة تقف أمام مكتبتها الرديئة وتسحب جريدة تاريخها يرجع للوراء تلاثة اعوام، تفتح الجريدة عند صفحة الحوادث وتقول..
- انظر جيدًا للصورة وعنوان الخبر..
فتاة وجدت مقتولة وتم اختفاء الجثة من ثلاجة الموتى ولم يتم العثور عليها حتى الآن.
- الزوجة تضحك بصوت عال ومخيف: أليست هذه "خلود"؟!.. هههههههههه أنتَ لى وحدى...
ظل حسان مصدوما لأسابيع ثم بدأ فى رحلة البحث عن إثبات الحقيقة والجانى ولا يزال محاولا إلى يومنا هذا ولم يقلع عن عادة عيد الأضحى المبارك والتصدق على روح أبيه و..."خلود".
التعليقات