إنّه ليس إشراقَ شمس، تأكدتُ بنفسي أنه إشراقُ وجهكِ حين أومأتِ إليّ، فأضأتِ كونًا بعتمتهِ ومضيتِ. هل تعلمين أنكِ تنثرينَ البهجةَ بكلّ أنحائي حين تبتسمين؟ تمامًا مثل هطول المطر في ليلة خريف سعيدة، يا بيضاء الثلج عمتِ صباحًا وأفضتِ نورًا يعانقُ كلّ الصباحات...
قد تكظم النفسُ أشياءً أخرى (فمن المعتاد أن صفة الكظم تكمن في الغيظ) مثل مشاعر ثائر يبدو هادئًا، كحبٍّ مكنونٍ متوارٍ بالأعماق، ليت كلّ المكظوم غضب أو غيظ فقط...
كانت ضحكاتها خارج حدود القلب، ضحكة مصطنعة تخفي حزنها الدفين، ولكن كيف لأناقة القلب الحزين أن يبدو وكأنّ له وجهان، ظاهرُه بشوش وباطنُه عبوس تليقُ به الأناقة.. جميلة هي كابتسامات القدر، ليتها لا تكظم ذاكرة ولا حنين، ليتها تتخلى قليلاً... لو أنكِ يا "ناهد" تبدأين بذاكرة جديدة أو أن أقداركِ تترفق قليلاً، أخشى أن يتحقق ما تنبأ به الجميع وأن أظل بنفسٍ جامحة نحو السراب، إن كان هذا مصيري فقد ارتضيت، ليس استسلام ولا يأس ولكنه القدر!!
جاءت أسرة "نبيل" لتبتاع بيتًا جديدًا بتلك البلدة النائية المعروف عنها أنها سكن العائلات الراقية التي تُفضل البُعد عن صخب المدن وزخم الحياة، ووقع الاختيار على المبنى الموازي لبيت "ناهد" المرأة الشقراء سيدة الحُسن والجمال. أمامها قد تظن أنك أمام لوحة رسمت بنقوش ذات طابع بديع، أنت في حضرة جمالها وسكونها الغامض، وقد تظن أنها ليست حقيقية ربما من أشباح الأساطير الإغريقية القديمة..
تعلق قلب "نبيل" ب"ناهد" منذ أولى لحظاته بالمسكن الجديد، فنافذة غرفته تُطل على نافذة غرفتها لكن من مفارقات القدر ذلك الشيء العجيب الذي يحدث يوميًا ولا أحد يفهم شيئًا عما يحدث لتلك الجارة (ناهد) التي تخرج باكرًا لشرفتها في جلوس مستمر وابتسامة ملائكية طويلة الأمد غير مبررة. كان نبيل أحيانًا يتصورها كالأميرة الهاربة من عالم ديزني بفستان حريري يملأ المكان بل الكون كله.
أما ليلاً تُغلق ستائر ونوافذ المسكن كله ويصبح كالقصر المهجور، مسكنًا مخيفًا ليلاً يمكنك أن تتخيله مليئًا بالأشباح وأن أميرة الصباح ما هي إلا شبح "أفروديت" أو أنها قد تكون من أرواح الموتى العائدين للانتقام من شيء ما! وما يثير الدهشة ويقذف الفزع بالنفس هو ذلك الصراخ الصادر ليلاً من غرفة تلك البيضاء الجميلة "ناهد". كيف أن يكون الصباح ذو ابتسامات تخطف القلوب بلا استئذان هكذا، ثم يعقبه ليل مخيف تكاد تضع أصابعك في آذانك خشية ذاك الصراخ، ما هي القصة؟ أين الحقيقة؟ هل "ناهد" موجودة بالفعل أم أن الأمر برمته أشباح وخيالات؟!
نبيل: أمي... أريد أن أخطب جارتنا، تلك الفتاة التي تجلس بشرفتها صباحًا. إنني معجب بها كثيرًا.
والدة نبيل في ذهول: أتقصد "ناهد"؟
نبيل: أجل وماذا في ذلك؟ أراك منزعجة من الأمر!
والدة نبيل: وهل تعلم قصتها التي أخبرني بها الجيران؟
نبيل: وما هي قصتها؟
والدة نبيل: لقد توفي زوجها الشاب وولدهما الرضيع بحادث سيارة منذ أربعة أعوام ولاظالت هي في صدمتها، تجلس هكذا مبتسمة نهارًا كأنها تراهم وتسعد برؤيتهم، أما في المساء تظل في صراخ إلى أن تخر قواها وتنام كالموتى.
نبيل بتوسل: سأعالجها أنا يا أمي، ثم أتزوجها.
والدة نبيل: وهل تعتقد أنك ستنجح فيما فشل فيه والديها؟ لقد سعوا كثيرًا لعلاجها إلى أن فقدوا الأمل، لا تفكر ثانية وانسَ الأمر.
ذهب "نبيل"، بيأس وحيرة، للجلوس لمقعده بالشرفة المقابلة لشرفة "ناهد". لو دققنا النظر وتمعنا بـ"نبيل"، لوجدنا الشعر الأبيض بدأ ينتشر في رأسه والتجاعيد حول عينيه تبدو مخطوطة بفعل رسام. إنه الزمن، لا أكثر، وكل ما ذكر من أحداث كانت من زمن طويل، لكنها ما زالت تقطن بذاكرة "نبيل" التي بدأت هي الأخرى في التآكل. إن نبيل مصاب بالزهايمر ويعيش مع أخته وأولادها بعد وفاة والدته، وكل ما تبقى في ذاكرته يتلخص في "ناهد". إنه الآن يجلس في شرود بالشرفة، منتظرًا خروج ناهد هي الأخرى.
ان أخته: "ألم تيأس أبدًا يا خالي من انتظارها؟"
نبيل: "صدقيني، 'ناهد' سوف تطل الآن."
أخت نبيل، هامسة بأذن ابنتها: "إياكِ أن تخبريه شيئًا عن انتحار 'ناهد' منذ سنوات، تلك وصية جدتك، رحمها الله."
ابنة أخته: "لقد نبهتِني مرارًا لذلك، أنا أفهم جيدًا يا أمي، لكني لا أفهم لماذا لا يزال صوت صراخها ينبعث من غرفتها ليلا."
أخت نبيل: "ليبقى أخي حيًا إلى يومنا هذا.."
التعليقات