حينما تم الإعلان مؤخرًا عن جوائز الدولة، كم فرحت وحزنت في الوقت نفسه، بحصول اسم الراحل الدكتور "مصطفى سليم" على جائزة الدولة للتفوق في الآداب، واسم الراحل الدكتور "محمد عناني" على جائزة النيل في الآداب، وكانت سعادتي بحصولهما على الجوائز تقديرًا لما حققوه من نجاحات تستحق كل التقدير، أما حزني فيعود إلى أن هذه الجوائز ذهبت إليهم بعد فوات الأوان، نعم.. لقد رحلوا ولن يستفيد أحدهم بهذه الجائزة، ورب قائل بأن الجائزة سوف تُخلد اسمه، لا أعترض، لكن ماذا لو ذهبت الجائزة للمبدع في حياته فتشعره بقيمته وتقدم له دفعات معنوية وتبث في كيانه روح جديدة تزيد من إبداعه، وفى التوقيت نفسه تُخلد اسمه. والأسماء التي ذكرتها هي نماذج لما يتكرر ويحدث بشكل مستمر وغريب..!!
وقريب من هذا التفكير أو يطابقه، ما يحدث من توزيع الجوائز تحت مسميات من قبيل "ذهبت إلى فلان لأنه كبير في السن" بمنطق أنه قاب قوسين أو أدني من القبر، وهنا يجب أن نضع العشرات من علامات الاستفهام والتعجب، فكثير من الأسئلة التي تصاحبها الدهشة تتدافع إلى رأسي حينما أقرأ هذه العبارة، فهل "كبير فى السن" مبرر لأن يستحق هذا الجائزة عن آخر "صغير في السن"؟! فمن يضمن يا سادة أيهما يموت أولًا وأيهما يطول به العمر؟!
وجزئية أخرى: هذا الكبير في السن لم يحصل على الجائزة من قبل (وهو أصغر في السن) لأنه حُرِمَ منها بنفس المنطق، فحينما كان صغيرًا لم يحصل عليها (وهو مبدع) لأن هناك "كبير في السن" استحقها، وهذا الكبير لم يحصل عليها من قبل حينما كان أصغر لأن هناك أكبر في السن... وهكذا ندور في دائرة مفرغة لا مجال أو مكان فيها لهذه اللحظة الحقيقية التي يستحق فيها المبدع الجائزة، اللحظة التي ترفع من روحه المعنوية وتزيد من إبداعه وليست لحظة الاقتراب من القبر ، أو لحظة تكريم "الاسم" بعد الوفاة.
الأمر في حاجة إلى عقول تنويرية تقف في "شموخ" قائلة: إن هذا المبدع يستحق هذه الجائزة الآن، وهو في قمة نشاطه، وهو بيننا على قيد الحياة، فإذا ما استقام الأمر وتم توزيع الجوائز على مستحقيها بالفعل نظرًا لإبداعهم، سيأتي اليوم الذى لا يُضطر فيه أحد إلى التخطي من أجل اسم الراحل فلان، أو علان الكبير في السن، لأنهم، وفقًا لمنطق التوزيع العادل، قد حصلوا على الجوائز من قبل ونعموا واستمتعوا بها في حياتهم، حينما كانوا فعلا في حاجة إليها.
صغير السن قد يموت قبل كبير السن، فلا مبرر أبدًا لأن يُثاب هذا ويترك آخر نظرًا للسن، ولا داعي أبدًا لأن يُهمل المبدع حتى يرحل عن عالمنا ثم يتم تكريم اسمه، فما أحوجه في حياته إلى هذا التكريم.
وأنا لا أتوجه بكلماتي إلى جهة معينة، إنما إلى ثقافة منتشرة في عالمنا العربي على وجه التحديد، في المؤسسات والهيئات المختلفة، في العقود الماضية والعقود الحالية، وإن لم يتحرك "المسؤول التنويري" فسوف نظل هكذا إلى الأبد.
التكريم الحالي يا سادة لا يخضع لقواعد معينة بقدر ما تُسيره "الأهواء"، وهذه هي الكلمة المناسبة التي تقابل ما نُطلق عليه ترفقًا "الإنسانيات"، وهو تجميل مقبول بالطبع و لا أرفضه، لكن أليس من الإنساني أن يحصل هذا الإنسان المبدع على التكريم في الوقت المناسب ليشعر بقيمته؟ أليس من الإنساني أن يُكرم المبدع بين أفراد عائلته ليفتخروا به في حياته؟! أليس من الإنساني أن يُكرم المبدع وهو في مرحلة مهمة من حياته وإبداعه لتهتم به الجهات والمؤسسات المسؤولة فيتزايد نشاطه وتعم الفائدة؟!
هيا.. نعيد ترتيب أوراقنا، نعيد تنظيم البيت.. مَن يستحق ينال.. ثم يترك الساحة لغيره.. وهكذا.. وأكرر في النهاية: هي مرة واحدة يتصدى لها أصحاب العقول المستنيرة ليعتدل ميزان عدالة التوزيع مدى الحياة.
التعليقات