في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، جاءت قوات الحملة الصليبية الخامسة إلى مصر واحتلوا مدينة دمياط الساحلية التي هرب أهلها منها فزعين إلى كل حدب وصوب. فهرع سلطان مصر، الملك الكامل ناصر الدين محمد بقواته لصد هذا العدوان، الذي إذا مر من دروب الدلتا ووصل إلى القاهرة سيحتلها.
كان الكامل في عجلة من أمره، فالصليبيون قادمون، ولا توجد على ضفاف النيل مدن مجهزة لتقف في وجوهم. احتار كثيراً أين يقيم قاعدته العسكرية؟ فمنطقة الدلتا ذات طبيعة مسالمة، ليس بها جبال ولا صخور ولا كهوف ولا هضاب ولا صحاري لتتحصن قواته بها، إنها أرض سهلية ذات طبيعة منبسطة يسهل السيطرة عليها. ازدادت حيرة الملك الكامل وهو يعسكر بقواته في أرض زراعية تبعد عن دمياط بمسيرة يوم ونصف بالخيول.
سار الملك الكامل بحصانه وسط الأراضي الزراعية في بقعة شديدة الهدوء، يستنشق نسيمها وتتسلل نحو أنفه روائح الورود المنتشرة في كل مكان. نظر إلى تلك الجنة وتنهد وهو يقسم بأن يدافع عن مصر وأرضها حتى الموت.
وأثناء سيره وبفطنة المحارب، نظر حوله وتنبه لأمر ما. فقد كانت الأراضي محاطة بعدد وافر من القنوات المائية، فهنا نهر النيل وهنا البحر الصغير، وهنا ترعة وهناك أخرى. إنها شبكة مائية كبيرة في منطقة صغيرة، يا لها من فكرة! بهذه المنطقة عوائق طبيعية رائعة تعوضنا عن غياب الجبال. التفت إلى رجاله ليسألهم أين نحن؟ فرد أحدهم، نحن في أرض يسميها أهلها جزيرة الورد. فقال الكامل: إذاً، لنبني مدينتنا هنا.
تدفق البناؤون من كل قرية قريبة، ومعهم عساكر الملك الكامل يعملون بكل همة ليلاً نهاراً لبناء قصر صغير للملك حوله مساكن للجنود ومسجد وحمامات وسور في الجهة التي ليس بها عوائق. لم يكن قد أطلق اسماً على تلك المدينة الصغيرة، كان يحث جنوده ويقول: سينصرنا الله وستكون مدينتنا على الصليبيين منصورة. وهكذا اشتهرت المدينة باسم المدينة المنصورة.
وأثناء تحصن الجميع والاستعداد للخطر القادم، كان الصليبيون قد أنهكتهم المعارك وفوجئوا بفيضان النيل. فعجزوا عن مواصلة المسير بالبحر الصغير، فقد أوقفتهم مياه الفيضان من ناحية، وعساكر المصريين من الناحية الأخرى. وهنا لم يجدوا مفراً من التفاوض مع الملك الكامل، ووصلوا معه إلى اتفاق بالرحيل غير المشروط عن مصر.
وبنشوة المنتصر الذي خلص بلاده من خطر محدق، جلس الملك الكامل وأخوته وقواده يحتفلون في ليلة من أسعد ليالي العمر. وأثناء الحفل والجواري تغنين وتنشدن الأشعار، دخل عليه أحد قواد العسكر الذي أبلى بلاءً طيباً، فسأله الملك الكامل عن اسمه، فرد قائلا، اسمي الفارس المنصور. وهنا ابتسم الملك الكامل وشرد قليلاً كمن جاءه وحياً ثم قال: وهذه المدينة سيظل اسمها هو، المنصـــــــــورة.
"غادر الكامل ورجاله المنصورة الصغيرة، التي ظلت مهجورة لمدة ثلاثين عاماً، قبل أن تصبح على موعد جديد مع الحملة الصليبية السابعة وذلك في عام 1249م. هي الحملة التي ضربت أهالي مدينة المنصورة خلالها أعظم صور الوطنية، حيث تضافرت القوة العسكرية مع القوى الشعبية، وشكلا سويًا خط دفاع عتيد ضد الحملة الفرنسية الضخمة التي انهارت بالنهاية أمام تلك المقاومة. لدرجة أن الملك الفرنسي لويس التاسع، تم أسره في هذه الحرب واقتيد للحبس بمدينة المنصورة في أحد البيوت التي لا تزال خالدة حتى اليوم، باسم: دار ابن لقمان.
بعد نهاية هذه الحملة وهزيمة لويس التاسع، لم يغادر الجميع المدينة كما فعلوا من قبل، فقد فضل بعض المحاربين في الجيش العربي المصري الاستقرار في المنصورة، كما استقر بها بعض النازحين من دمياط وعدد من المغاربة من القرى المجاورة، يطلق عليهم طائفة المرتاحية. المثير أنه كان ما يقرب من مائتي جندي فرنسي من فلول الحملة الصليبية، استقروا بالمنصورة وأصبحوا من مواطنيها، كما كانت هناك بعض العائلات اليهودية التي تعيش في قرية على الضفة الأخرى للنيل تسمى جوجر، فضل بعضهم الانتقال إلى المنصورة ليجربوا حياتهم بها.
وهكذا بدأت المنصورة كمدينة كوزموبوليتانية، أي تحوي العديد من الأجناس، فكان أول أهلها: مماليك، مغاربة، فرنسيين ويهود. وعبر السنين بدأ أهالي القرى في التوافد عليها والاستقرار بها، وبمرور السنين أصبحت واحدة من المدن المصرية الرئيسية، وشكلت مركزًا تجارياً مهمًا في دلتا مصر، بالإضافة إلى شهرتها في مجال الطب والعلاج التي تراكمت عبر الخمسين عاماً الماضية، حتى أصبحت معروفة بلقب: عاصمة مصر الطبية.
التعليقات