قديمًا كانت الحجارة هى الوسيلة التى يسجل عليها الإنسان إنجازه وأفكاره وكل ما يريد الاحتفاظ به لنفسه ولأجيال المستقبل، ومع التطور ظهر ورق البرديَّ ثم الورق العادي والطباعة، ثم بدأت مرحلة جديدة تتزامن مع ذاكرة الإنسان المطبوعة وهى الذاكرة السينمائية حينما أبدع "الأخوة لوميير" السينما عام 1895 ثم حدثت الطفرة النوعية الأولى عام 1915 مع فيلم "ميلاد أمة" للمخرج دفيد جريفيث وتلتها النقلة أو الطفرة الثانية فى صناعة السينما عام 1927 مع إنتاج فيلم "مغني الجاز" "the jazz singer " كأول فيلم ناطق.
ومنذ ذلك الحين وتحولت الصورة السينمائية أفضل أشكال الحفاظ على التراث الإنساني من الضياع والنسيان، خاصة التراث الفني الحركي، ومن هذا الإبداع البشري فن المسرح ولن نتطرق إلى مراحل تطوره، لكن الجهد المبذول في أي عمل مسرحي من كتابة نص وأشعار غنائية وفريق عمل ضخم مكون من ممثلين واستعراضات وديكور وملابس وإضاءة وجمهور عريض يتابع هذا العرض، كل هذا يمثل عملا فنيًا متكاملًا تكلف عشرات الآلاف وأحيانًا مئات الآلاف من الجنيهات.
يجب أن يتم الاحتفاظ به كتوثيق للمرحلة التاريخية التى صدر فيها وأيضًا كتراث للأجيال القادمة، ولا يوجد أي عقل ثقافي في العالم أجمع ينفق مئات الآلاف على عمل فني لمجرد عرضه عدة أسابيع ثم يمحى من على وجه الأرض بمنتهى البساطة..!!، فلدينا عروض مسرحية تقدمها مسارح الدولة تتكلف الملايين سنويًا، يجتمع فيها النجوم من تأليف وأشعار وتمثيل وديكورات.. إلخ.
ولكنها للأسف الشديد لا تجد جزء من بين مئة جزء من الاهتمام الذى تلاقيه أعمال لا تصل إليها في الجودة من إنتاج القطاع الخاص، والإهمال أو التجاهل كثير في تفصيلات دقيقة من الإنتاج وفي الدعاية. أذكر أنى منذ عدة سنوات تقدمت للدكتور أشرف زكى، حينما كان رئيسًا للبيت الفني للمسرح، بمشروع إنشاء إدارة خاصة تكون مهمتها "الدعاية" لعروض مسارح الدولة بما تمتلكه من إمكانيات فنية وجرعات ثقافية مكثفة، تحمس جدًا لورقة العمل هذه، لكن كشأن آلاف الأفكار غيرها توقفت وضاعت بين تفاصيل الزمن تحت صفعات ضربات روتينه العقيم.
وإن كانت تلك فكرتي عن الدعاية لأعمال فنية تضيع بسبب التجاهل وعدم إلقاء الضوء عليها، فإن هذه الأعمال تضيع إلى الأبد بسبب عدم تصويرها وحفظها كتراث ثقافي لمن لم يستطيع مشاهدتها على خشبة المسرح أو تلك الأجيال القادمة التى تبحث باستمرار عن حضارة الآباء والأجداد.
عشرات العروض المسرحية حضرتُها وكتبتُ عنها وتنتهى مدة العرض وينتهى معها العمل، ولن نستطيع بأي حال تجميع نفس الجهود الفنية وفريق تمثيل وتكلفة مادية مرة أخرى ولو ليوم واحد للتصوير، وهى بالمناسبة عروض لنجوم لو أنتجها حرفيًا القطاع الخاص لربح منها الملايين.
ومن بين تلك العروض المهمة حاليًا عرض الفرقة الكوميدية على المسرح العائم بقيادة الفنان أيمن عزب "حلم جميل"، وهو عمل فني متكامل من إنتاج الدولة ويحمل الكثير من الرسائل الفنية والفكرية، وأيضًا الكوميديا التى تنافس المسرح الخاص "التجاري"، ومسرحية "حلم جميل" تأليف طارق رمضان والبطولة للفنان الموهوب المجتهد جدًا سامح حسين ويشاركه فى البطولة الصاعدة المتألقة سارة درزاوي، مع الطاقة الفنية التى تجيد فى مختلف الأدوار والمعروفة فنيًا باسم "عزت زين" وإلى جواره الفنان جلال الهجرسي ويشاركهم أحمد عبدالهادي، رشا فؤاد، هنادي محمود ومجموعة من شباب المسرح الكوميدي لن تسعفني الذاكرة لذكر أسمائهم وذلك لعدم وجود "بامفلت" دعاية للمسرحية وحينما سألتُ عنه قيل لي "لا يوجد .. تحت بند ترشيد النفقات..!!" تخيلوا ونحن نبحث عن دعاية ضخمة لمسرح الدولة نجد أن ورقة الدعاية الصغيرة تم منعها ترشيدًا للنفقات..!! ديكور مسرحية "حلم جميل" لحازم شبل، ملابس نعيمة عجمي، موسيقى هشام جبر، أشعار غنائية طارق على والإخراج للمتميز المبدع إسلام إمام.
والعرض يتعرض لفكرة الصراع الطبقي بين الأثرياء والفقراء ورؤية كل منهما للآخر، ففي الوقت الذي نجد فيه الفقراء يبحثون عما يستر جسدهم ويسد جوعهم نجد الأثرياء يأنفون من مجرد التعامل معهم فى اللحظة التى قد يتاجرون فيها بالفقراء لتتزايد ثرواتهم.
تدور أحداث الرواية فى زمن الملكية البائد فى مصر المحروسة حيث وجود طبقة الباشوات ويمثلها نجيب باشا "عزت زين" وطبقة الفقراء والمشردين ويمثلها الشاب جميل "سامح حسين" والفتاة "حلم" سارة درزاوي مع عدد من أبطال الرواية، نظرات حالمة من الفقراء إلى الأثرياء يتمنون مساعدتهم فى مواجهة نظرات كلها قسوة من الأثرياء نحو الفقراء تصل إلى حد الرغبة فى الإبادة، تلك النظرة القاسية من الأثرياء ثابتة لا تتغير إلا فى حالة واحدة فقط، وفقًا للنص، وهى أن يفقد الأثرياء رشدهم عن طريق السكر، وقتها يتحسرون على ما يعيشه الفقراء من سعادة وراحة بال بينما هم كأثرياء تشقيهم أموالهم، فيرغبون فى مساعدة الفقراء وانتشالهم من فوق الأرصفة ليناموا معهم فى قصورهم، لكن تلك النظرة سرعان ما تنقشع مع زوال تأثير الكحوليات على عقولهم، العرض ممتلئ حتى التخمة بالرسائل والإسقاطات، لا توجد فيه جملة تمر إلا وتجعلك تبحث خلفها لحظات بداية من اختيار اسم "نجيب باشا" كنموذج للطبقة الثرية، واسم الفتاة "حلم" والفتى المشرد "جميل" ومرورًا بأغنيات العمل والرقصات الاستعراضية والديكور والملابس التى تعبر عن طبقات ثرية تارة وطبقات مشردة تارات أخرى، وملابس كلها زهور وألوان مبهجة للفتاة "حلم" الكفيفة التى يتم إجراء عملية لها لتبصر وترى الوجود فى مشهد ولا أروع، فقد أشعرتنا طوال العرض بأنها كفيفة ولا مجال لأي شك فى ذلك، فلم تغفل لحظة واحدة بحركة عين عفوية، ونحن على خشبة مسرح ولسنا أمام كاميرا تحتمل الإعادة، ثم تبهرنا وبصرها يعود وكأننا نبصر معها ونرى الوجود بعينيها فى لحظة رائعة أبدع فيها المخرج إسلام إمام.
لم أخصص هذه السطور لكتابة رؤية نقدية متكاملة عن العمل وهو أمر تطرق إليه غيري الكثير، إنما قضيتي هنا توجيه عدة رسائل للجهات المسؤولة فى الدولة وللدكتورة الفاضلة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة، أولها ما ذكرته فى البداية من ورقة عمل لإنشاء إدارة الدعاية والترويج الإعلامي ويضاف إليها النشاط المهم وهو تصوير العمل بشكل احترافي تجاري، فتلك ثروة فنية ومال عام أُنفِق عليها، وإن لم نقل أنه أُهدِر كله فقد ضاع معظمه بسبب عدم تصوير العمل وحفظة فى تراثنا الفني وبيعه وتحقيق مكاسب من خلفه، مكاسب تساعد فى تكلفة الانتاج والدعاية والانتقال إلى عمل جديد وفرق أخرى تعمل وحركة مستمرة، ورسالة أخيرة، مثل تلك العروض تتم فى القاهرة فقط وحينما تخرج تتوجه إلى الإسكندرية، بينما باقي محافظات مصر تحرم منها ولن يسافر المواطن من محافظته إلى القاهرة أو الإسكندرية لقضاء سهرة مسرحية ثم يعود، ويوجد فى كل محافظة مسرح كبير تستطيع الفرقة العرض عليه وهو أمر بالمناسبة حدث من قبل فقد حضرتُ منذ سنوات على مسرح أم كلثوم بمدينتي المنصورة عرض "كنت فين يا على" بطولة النجم الراحل نور الشريف والنجمة بوسي.
أخيرًا وفى ظل الجمهورية الجديدة والنهضة التى تتحقق فى مختلف المجالات أتمنى أن تجد كلماتي الصدى المناسب ويتم الحفاظ على هذا التراث من الاندثار نظرًا لما أنفق عليه ونظرًا لقيمته الفنية.
التعليقات