للمدن الساحلية التي تطل شواطئها على البحار مذاق خاص إبتداء من سهولة تخطيط شوارعها الرئيسية باعتبارها شريطا موازيا للبحر تتفرع منه شوارع طولية وأخرى عرضية، وبالتالي سهولة السير في أرجائها وصعوبة التوهان أثناء التجوال في شوارعها، وإنتهاء بكونها تمثل حدودا جغرافية مع مدن أخرى قبالتها مما يتيح لها مزية مختلفة بإتخاذها حصون منيعة حال خوضها الحرب لا قدر الله، ومن بين هذه المدن العتيقة التي أمتلكها المقاتل الفذ الاسكندر الأكبر - تلميذ أرسطو- مدينة الاسكندرية بجمهورية مصر العربية والتي كانت نموذجا فريدا لضمها الحضارتين العظيمتين الشرقية والغربية في حضارة واحدة يعيش العالم تحت أسرها.
رحل الأسكندر الأكبر إلى الشرق حيث سحق الفرس وواصل تقدمه الى بلاد الأفغان فالهند وعندها يعود الى الخلف قليلا ليلقى حتفه فجأة في مدينة بابل بالعراق سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرون قبل الميلاد بأسباب مازالت تحير العلماء حتى الآن، ليقتسم قادته هذه الامبراطورية العظيمة ولتكون مدينة الإسكندرية من نصيب قائده المحنك بطليموس التي يتخذها عاصمة لمملكته بعد تسميتها بإسم سيده وقائده الآمر ببنائها.
في هذه المدينة العريقة حواديت وقصص لا تنتهي حيث تأخذنا الكاتبة في رحلة ممتعة للتعرف على بعض حكايات الأولياء الصالحين والقديسين والخواجات والطلاينة وحكايات دانيال ومقبرة الاسكندر المزعومة بتواجدها في هذا الشارع العريق – شارع النبي دانيال علاوة على حديث الكاتبة عن المغاربة الذين أحتلوا نصيب الأسد من ذكريات هذه المدينة وأشهرهم المرسي أبو العباس –رأس الأولياء الصالحين وصاحب الضريح الذي يرقد بداخل الجامع والذي يحمل نفس الأسم وبجواره مسجد تلميذه ياقوت العرش صاحب المسجد الذي سمي بأسمه، وسيدي الشاطبي القادم من مدينة شاطبة الأندلسية ـ وسيدى محمد بن رحال العجمي – عدو النساء صاحب أحد أهم شواطئ المدينة الساحلية في فترة الثمانينيات وأوائل التسعينات – والذي ربته زوجة أبيه وكانت قاسية عليه أشد القسوة حيث جاء من المغرب قاصدا الحج وتوفي في مدينة الاسكندرية ليدفن في ضريح داخل بحر ميناء الدخيلة، وسيدي القباري الاسكندراني الأصل والنشأة و الذي خلع إسمه على حي شهير وعريق بالمدينة والعديد من الاسماء التي لايسع المجال لذكرها في هذا المقال.
وهناك العديد من أغاني التراث الشعبي السكندري التي تقول : اقروا الفاتحة لابو العباس ياإسكندرية ياأجدع ناس والفاتحة التانية لسيدي ياقوت واللي يعادينا يطق يموت والفاتحة التالتة لأبو الدردار والي يعادينا يولع نار حيث يرتبط هذا الفولكلور بأسماء أهم الشخصيات الأتقياء في هذا العصر الذين نسجوا تراثا مازال محفورا في أذهان العامة حتى الآن.
تنتقل الكاتبة بعد ذلك الى الحديث عن خواجات وقديسين الاسكندرية ابتداء بالقديس المسيحي سان إستـــــيفانو – أحد أهم شهداء المسيحية والذي نقلت جثته في عصور تالية الى روما حيث شيدت له هناك كاتدرائية بإسمه وهي من أكبر وأقدم الكنائس الدائرية الشكل في مدينة روما ،لتنتقل بعد ذلك الى الشهيد مارمينا الذي كانت معجزاته لاحصر لها حيث رفض السجود للاوثان وأمر بفصل رأسه عن جسده ليستشهد في الرابعة والعشرين من عمره وتروي أيضا حكاياته مع القديس الشاب مريوط - في منطقة تعرف باسم كنج مريوط في مدخل مدينة الإسكندرية.
لم تكتفي المدينة العريقة بهؤلاء بل أمتد الاثر الى خواجات اسكندرية وأولهم الخواجه نيكولا أكاسيماتس صاحب سلسلة متاجر "منيرفا" في قلب محطة الرمل والذي كان يحمل أول سجل ضريبي لجالية أجنبية في مصر وكذلك الخواجه زيزينيا اليوناني صاحب وصديق محمد علي باشا الذي أستقر بالمدينة وأصبح احد أكبر تجار القطن ، وبعد ذلك ينتقل الحديث الى اليونانى أنطونيادس صاحب أكبر القصور في ذاك الزمان وهو شبيه قصر فرساي بفرنسا مستقبلا رؤساء سبع دول بمساحته الشاسعة البالغة خمسون فدانا.
الحديث عن تاريخ تلك المدينة لاينتهي فقد كانت أيضا مهدا للتجارة الحرة حيث سكن بها الخواجه اليوناني جناكليس قادما من مقدونيا ليكون من أهم وأكبر تجار الدخان والكحول ، حيث أسس كذلك الجمعية اليونانية بالقاهرة التي مازالت قائمة الى يومنا هذا لترعى أحوال اليونانيين في مصر وتربطهم ثقافيا واجتماعيا بالوطن الأم ، علاوة على ارتباط المدينة العتيقة بالنشاط الرياضي في قلب منطقة كامب شيزار – عنوان نادي نوبار الرياضي والذي أسسه بوغوص بك أبن نوبار باشا أول رئيس وزراء لمصر القادم من أرمينيا ليكون هذا النادي البسيط لنشاط كرة السلة دليلا على وحدة الشعوب من مختلف الأجناس والأعراق.
أخيرا اذا قررت السفر الى مدينة الاسكندرية عبر الطريق الزراعي فأنت على موعد لرؤية تماثيل يونانية بيضاء بياض الثلج التي تحفظ للاغريق الفضل التاريخي في أنشاء تلك المدينة المبهجة "مدينة سموحة " وذلك تيمنا بالرجل العراقي اليهودي – سموحة - الذي جاء من بابل ليؤسس أحد اهم وأرقى أحياء منطقة شرق الاسكندرية.
الكتاب الذي بين يديك موسوعة تاريخية لكل شبر في مدينة الاسكندر الأكبر وقد بذلت الكاتبة سهير عبد الحميد مجهودا ضخما لتاريخ تلك المدينة العريقة في كتاب صغير لاتتجاوز صفحاته مائة وستون صفحة.
التعليقات