يتميز الماراثون الرمضاني بكثرة الأعمال بين دراما وكوميديا ورومانسية وأكشن وتاريخ وسير ذاتية، ولكثرة الأعمال يمكن أحيانا ألا يلقي كل عمل ما يستحقه من تقدير أو هجوم، لوجود ما يعرف بالمسلسلات الجماهيرية التي تجذب الجمهور إليها بتقديمها لمشاكل اجتماعية غير متناهية والتي فهمها واستغلها صانعو محتوى قنوات اليوتيوب بتقديمهم لمشاكل أسرية خاصة ولكنها تجمع آلاف المتفرجين، والشاب الفقير الذي ينتهي به الحال واحدا من أغنى الأغنياء فيعبث بآلام الشباب ويجذبهم إليه؛ فتشغلهم تلك الأعمال عن مشاهدة الأعمال القوية الحقيقية التي تقدم استفادة للمشاهد، ولكن نجمها خافت بين الأعمال الجماهيرية.
أطل علينا النجم خالد النبوي في المسلسل التليفزيوني "رسالة الإمام" والذي يقدم فيه رحلة حياة مليئة بالصعاب والكفاح لواحد من أهم الشخصيات الدينية في التاريخ الإسلامي وهو الإمام "محمد بن إدريس الشافعي" صاحب المذهب الثالث في الفقه الإسلامي عند أهل السنة والجماعة ويعرف بالمذهب الشافعي، كان لكل دولة إسلامية فقيهها وإمامها المفضل، فكان الإمام أبو حنيفة فقيه العراق، والإمام مالك بن أنس فقيه الحجاز، وأصبح الشافعي فقيه مصر؛ وهذا بعد أن نشأ نشأة صالحة حفظا لنسله الشريف من عبد مناف بن قصي الجد الثالث لسيدنا محمد (ص) وواصلها بحفظه للقرآن الكريم فظهرت عليه بوادر الذكاء وحسن الإدراك والاستماع والحفظ؛ فاهتمت والدته – والتي ذكر في أكثر من رواية أنها حفيدة الحسين بن علي بن أبي طالب ولكن الرواية المتفق عليها أنها أزدية يمنية – بتلقينه العلم على أيدي كبار العلماء وقتها فذهب إلى المدينة المنورة ليأخذ العلم عن إمامها مالك بن أنس فأحبه وبشره بشأن عظيم وفي رحلته الأولى إلي بغداد أخذ علم الإمام أبي حنيفة فجمع بين فقه الحجاز وفقه العراق، وأخذ في الترحال بين دولة ودولة طلبا للعلم وبحثا عن تراث كل عالم جليل وتدوينه فقال: “إن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة." ثم أتم ترحاله بما وجد فيها راحة قلبه وهي مصر فكانت محطته الأخيرة مكث فيها أربع سنوات أخرج فيهم علمه وتفكيره بمذهب فقهي جديد يمزج بين كلا المذهبين اللذين سبقوه حيث مذهب الإمام أبي حنيفة الذي غلب عليه النقل عن الرسول (ص) والصحابة، ومذهب الإمام مالك الذي غلب عليه آراؤه في الأشياء الجدلية التي لم ترد في نص قرآني أو سني صحيح، بالإضافة إلى رؤيته وآرائه الجديدة ليخرج للناس فقه الشافعي إلى أن توفاه الله على أرض مصر ودُفن فيما يعرف الآن بقبة أو ضريح الإمام الشافعي.
ظل فقه الإمام الشافعي هو المتبع والمرجع للشعب لسنوات طوال اقتداءً بحديث الرسول(ص) "اللهم اهد قريشاً فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً، اللهم كما أذقتهم عذاباً فأذقهم نوالاً." ودعا به ثلاث مرات وقيل أن الاستجابة كانت في الإمام الشافعي حيث لم يخرج من نسل قريش عالم فقيه محبوب أكثر من الإمام الشافعي.
إلى قيام الدولة الفاطمية حيث اتخذت من المذهب الشيعي الإسماعيلي مذهبا رسميا لها وتم تشييد الجامع الأزهر ليصبح مقرا لنشر المذهب الشيعي في مصر، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي ناهيا للحكم الفاطمي مُنشئا للدولة الأيوبية مُعيدا لمذهب الشافعي مذهبا رسميا للبلاد واستمر ذلك لسنوات طويلة، إلى أن جاء سليم الأول محتلا فجعل المذهب القائم في مصر هو مذهب أبي حنيفة حيث كان المذهب المتَّبع في الدولة العثمانية ليستمر هو المذهب السائد إلى يومنا هذا.
ليس بالأمر مجال لغضب أو احتجاج؛ لأنه بالأصل لا تضارب بين أسس وقواعد المذاهب الأربعة - حيث المذهب الرابع هو مذهب الإمام أحمد ابن حنبل - فالمصدر والمرجع للمسلمين جميعا هما القرآن الكريم والسنة النبوية، واجتهادات الأئمة والشيوخ فيما لم يرد فيه نص صريح هو أمر مباح طالما وُجدت أدلة وبراهين مع رأي راجح، وبعد حديث ومناقشات يجتمع متبعو المذاهب الأربعة في مسجد واحد لتأدية فرض الصلاة.
فإذا كان الفن قد وُجد لآية إلهية فهي تقديم مثل تلك الشخصيات العظيمة التي أفنت حياتها في طلب العلم بنية خالصة إلى الله سبحانه وتعالي فلم ترغب في شهرة ولا جاه فكان المراد هو نيل رضا الرحمن، ولهذا فإن الفن وُجد من أجل أمثال النجم خالد النبوي؛ ممثل متزن لم يسعَ يوما وراء الأعمال الجماهيرية، فعلى الرغم من نجاح رائعته ورائعة الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة "راجعين يا هوى" في العام الماضي؛ فكان يمكنه أن يستمر في تقديم شخصيات مشابهة أو تكرار الشخصية نفسها بصنع أجزاء جديدة للمسلسل مثلما يفعل أقرانه وكل من حوله لنيل مزيد من الإعجاب والنجاح؛ ولكنه ذهب إلي النقيض تماما مقدما عملا يعلم أنه ليس بالعمل الجماهيري ولكنه يلائم قناعاته فهذا هو الإمام الشافعي وهذا هو خالد النبوي فكيف يكون "رسالة الإمام".
التعليقات