من المسرحيات الشعرية التي تركها لنا أمير الشعراء أحمد شوقي، مسرحية "الست هدى"، وفيها لمحات كوميدية على عكس مسرحياته الأخرى: مصرع كليوباترا، وقمبيز، ومجنون ليلى، وعنترة، وعلي بك الكبير، وأميرة الأندلس.
وتتناول "الست هدى" شخصية المرأة القوية القادرة ذات الحيل، التي تدور حولها المسرحية، وهي تطوير وإنضاج لشخصية المرأة القوية الحديدية الإرادة التي نجدها دائما في كل مسرحية من مسرحيات شوقي.
إن شوقي يجمع بين المرأة القادرة، والمرأة ذات الحيلة في خلق واحد. فالست هدى تفرض إرادتها على أزواجها المتعددين وعلى صديقاتها وجيرانها، بمزاج من القوة والتحايل، وهي تعرف متى تطمع، ومتى تخشع. وتعلم أن فدادينها ومنقولاتها وحليها هي ركيزتها الكبرى، وليس "الشباب المولِّي" الذي تحاول جاهدة أن تتمسك به، بوقوفها الدائم عند حدود العشرين، لهذا تعد هدى الجميع بمالها ثابتا ومنقولا، لتضمن التفاف الناس حولها، ثم لا تبذله في الحقيقة لأحد.
بل أن شوقي ليمضي إلى أبعد من هذا في تصوير مكر هدى، فيجعلها تسخر – من وراء القبر – من آخر ضحاياها من الأزواج. تعده بالثابت والمنقول فيتزوجها، ثم تموت الست، فيكتشف الرجل أن "هدى" ما وعدته إلا غرورا. وعلى ذلك تصور المسرحية صراعا واضحا بين مجلس النساء – الذي تديره "الست هدى" - وبين مجتمع الرجال. ورغم أنها مكتوبة بعطف خاص على النساء، تنقد النساء والرجال معًا. وهي مسرحية تنتمي إلى كوميديا السلوك.
ومع ذلك، فإن الست هدى كانت سيئة الحظ، فقد كان زوجها الأول معقولا بعض الشيء، ولكنه توفي ولم يعش معها كثيرا، أما باقي أزواجها فكانوا شخصيات رديئة، ما بين أفاق وسكير أو لص، وكانوا يعيشون عالة عليها، وبعضهم حاول الاستيلاء على أموالها. وأمثال هؤلاء الرجال موجودون في المجتمعات في كل زمان، وكل مكان.
ولو كانت قد أنجبتْ وملأ أبناؤها عليها حياتها، لما تزوجت بعد وفاة زوجها، ولكن كيف تعيش وحدها بلا ونيس وبلا حماية؟
لقد تزوجت الست هدى عشرة رجال، انفصلت عن بعضهم، فقد كانت العصمة في يدها، ومات أغلبهم، ولما شعرت بقرب نهايتها تركت مصاغها لبنات جاراتها. وأوقفت المنزل، وما فيه لبنت أول زوج لها، وهي "بهية" فقد كانت تحبه وتوفي وهي متزوجة به وأوقفت الأرض الزراعية لبيت الله، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرمت آخر زوج لها (وهو السيد العجيزي) من أي ميراث منها.
وللست هدى لها مثيلات في المجتمع، فهي سيدة ثرية سيئة الحظ لم تنجب أطفالا يملأوا عليها حياتها، اما أزواجها فقد كانوا مجموعة من الأفاقين الباحثين عن المال وهم بلا أخلاق ولا مبادئ وأمثالهم موجودون في كل المجتمعات. وقد أصابتها عقدة نفسية لعدم الإنجاب، ولكنها كانت حريصة على أموالها من هؤلاء الأفاقين فلم تمكنهم من الاستيلاء على ثروتها. إنها كانت سيدة بائسة.
وبالرغم من أن هذه المسرحية فكاهية، فإن بها كثيرا من العبر ودروس الحياة.
تقول الست هدى تصف أزواجها:
يقولون في أمري الكثير وشغلهم ** حديث زواجي أو حديث طلاقي
يقولون إني قد تزوجت تسعة ** وإني واريت التراب رفاقي
وما أنا (عزريلٌ) وليس بمالهم ** تزوجت، لكن كان ذاك مالي
وتلك فداديني الثلاثون كلما ** تولى رجال جئنني برجالِ
وتقول عن زوجها الأول:
مات فكدت أموت حزنا ** وكان عمري عشرين عاما
ثم تزوجت بعد خمس ** من ذا يرى فعلتي حراما
أما زوجها الثاني (علي) فكان أفاقا مفلسا، تزوجها لمالها، وقد وصفته في صورة هزلية مضحكة:
يرحمه الله كان ذا بخر ** وكان إن يقعد وإن يقم نخَر
وإن مشى تخرجُ ** أصواتٌ أُخَر
رحمة الله عليه ** جُنَّ بالنسل جنونا
ثم لما مات، ما ** خلَّف لي إلا ديونا
ويبدو أن الست هدى لم تتذكر زوجها الثالث، فهي لم تتحدث عنه، يبدو أنها نسيته في زحمة أزواجها العشرة.
وتشاء الصدف أن تتزوج الست هدى أديبًا، كان هو زوجها الرابع فقالت عنه:
ولست أنسى زوجيَ الرابعا ** لا نافعا كان ولا شافعا
قالوا: أديب لم يروا مثله ** ولقَّبوه الكاتب البارعا
قد زيَّنوه لي .. فاخترته ** ما اخترتُ إلا عاطلا ضائعا
رحمة الله عليه ** كان لا يحقر مالا
كان إن أفلس لا ** يسألني إلا ريالا
أما الخامس فقد كان ضابطًا، ولكنه كان سكيرًا مقامرا: يجئ البيتَ في ضوء الصباحِ / يكاد إذا تورَّط في قِمارٍ يقامر بالنجوم وبالسلاحِ (لم يردني لكن أراد مَصَاغي) لقد ضلَّ (لا أشتري جيشا بفدَّانِ).
الزوج السادس كان موظفًا فقيرًا، سرق منها بعض الأشياء (مات ما وجدوا في جيبه غير قطعتي ذهب وسبحة من خزانتي سرقت كانت على الرف من وفاة أبي) وقالت عنه:
ما كان في وجنتي يُقبِّلُني ** بل همُّه في يدي يُقبِّلُها
وعينُه في خواتمي أبدا ** يحدِّث النفسَ كيف ينشلها
في المرة السابعة تزوجتْ فقيهًا كهلا (في الخمسين) هو الشيخ عبدالصمد، لم ينفق عليها، ولكنه ضربها مرة بالعصا، لأنها نظرت من النافذة، فجاء بالنجار سدَّ الشبابيك وسمَّر الكوَى. ولكنه لم يحل عقدة كيسه، يفضّل الأكلَ من غير مالِه وفلوسه.
وفي كل زيجة تدعي الست هدى أن عمرها عشرون عاما، فهي لا تكبر أبدا.
الزوج الثامن كان المقاول مهدي، كان ثريا ولكنه كان يستغل مالها ولا يصرف عليها وعاش معها عامين ثم مات، وهي لم تزل في العشرين من عمرها. أما هو (لم يكن عند الطعام يستحي يأكل مالي ويعد ماله).
أما الزوج التاسع فكان محاميا سكيرا فاشلا في عمله، وهي ترى أنها لا تزال ابنة العشرين، وكان يقول لها وهو سكران: (أين العجوز؟ أين جدتي هدى؟/ خداك ضفدعتان قد أسنَّتا / وأذناك عقربان من قِنا / وحاجباك والخطوط فيهما / كدودتين اكتظتا من الدما / وبين عينيك نفارٌ وجفا / عينٌ هناك خاصمت عينا هنا). ويحاول هذا الزوج أن يضربها، فينجدها جيرانها من النساء وبناتهن، ويضربن المحامي علقة ساخنة، فيهرب من المنزل، وتطلقه.
أما الزوج العاشر فهو من أعيان الريف، جاء إلى القاهرة هاربًا من الديون، وتزوج الست هدى لكي يستولي على ثروتها، وتنفس الصعداء عندما ماتتْ، وقال يخاطب نفسه: (المال صار يا عجوز مالي / وأصبح البيتُ وما حوى لي. من بعد عَشَرةٍ من الرجالِ).
ولم يكن يدري أن الست هدى تصرفت في كل ثروتها.
كانت هدى قوية الشخصية فلم تمكِّن أحدا من أزواجها من ثروتها، على الرغم من أنها حصلت على ثروتها هبةً من السادة الذين كانت تخدمهم، فاتخذت من الرجال ألعوبةً تلهو بها. وبالرغم من ثرائها فإنها كانت تتصرف بأسلوب الخدم.
التعليقات