من شب على شيء شاب عليه؛ ولدنا ونحن نسمع عن الانتماء، الانتماء إلى الأهل إلى المدرسة إلى الدين وإلى الوطن، بين كثير من الذنوب والصفات المكروهة تظل خيانة من تنتمي إليه أبشع الصفات.
الأهل هم من يجري في عروقهم ما يجري في عروقك، والمدرسة هي تلك التي قضيت فيها صباك طالبا للعلم والدين هو ما تعتنقه الآن، ولكن ما هو الوطن الذي نشعر بالانتماء تجاهه؟ أهي الأرض التي خرجنا إلى الدنيا عليها؟ أم الأرض التي عشنا فيها سنوات عمرنا؟ أم الأرض التي تنحدر منها أصولنا؟ وبأي اختيار نكون على صواب؟
ولد بيرم التونسي مصري الهوى تونسي الأصل في محافظة الإسكندرية بعد وقوع مصر في قبضة الاحتلال البريطاني بأحد عشر عاما فشهد في صغره صراعات الأبطال أمثال سعد زغلول وما يواجهه كل يوم لنيل الاستقلال فخرج مليئا بحب النضال والكفاح المتأصل بالقوة والشجاعة تعرف على سيد درويش وجمع بينهما حب الفن وحب الوطن؛ عاش بيرم التونسي حياة مليئة بألوان الأدب حيث الشعر والزجل والمقالات في العديد من الجرائد والمجلات مطالبا بالاستقلال حتى أصدر صحيفته صحيفة المسلة والتي وجهها إلى مناصرة أبطال الشعب والوقوف أمام من يهاجموهم ولو كان الحاكم حيث هاجم في مرة مفتي الديار آنذاك محمد بخيت عندما هاجم سعد زغلول، ووصلت المسألة إلى اتهام بيرم بالكفر، ولكن هذا لم يسكته عن الحق فاستمر في زجله في مهاجمة الملك فؤاد وابنه الملك فاروق حتى تم نفيه لأول مرة في يوم عيد الأضحى -حسب ما وصف في قصيدة "يوم المدابح"- إلى تونس حيث مسقط رأس أهله والتي لم يطق المكوث فيها؛ فسافر إلى فرنسا ليعمل شيالا في ميناء مارسيليا ثم أخذ يتنقل في فرنسا بين باريس وليون ولكنه لم يتحمل غيابه عن مصر أكثر، فعاد إليها متخفيا حتى قبض عليه ونفي إلى باريس مرة أخرى وكرر مغامرته ثانية؛ حيث تسلل إلى مصر أثناء مرور سفينة يعلوها على مصر وطالب بالعفو وحصل عليه، عاد لمصر بمسرحياته وأغانيه التي ملأت مصر والوطن العربي مسرح مع عزيز عيد وأغاني مع أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وحصلت مصر على حريتها ١٩٥٢ ليكرمه جمال عبدالناصر ويمنحه حلم حياته "الجنسية المصرية" التي لطالما شعر أنها من حقه لأنه لم يرَ نفسه إلا مصريا فعندما كتب قصيدة الشرق الموجهة إلى جنسيات العرب المختلفة خاطب المصري قائلا:" يا مصري وأنت اللى هاممني من دون الكل..." ووصف معاناته في غربته في قصيدة حياتي:
" الأولة آه .. والثانية آه .. والثالثة آه ..
... الأولة: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير وإحساني
والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صافاني
والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني
الأولة: شربتني من فراقها كأس .. بمرارة
والثانية: اه فرجتني على الجمال ينداس .. يا خسارة
والثالثة: يا ناس يا ريتني كان لي فيها ناس .. وأداره
الأولة آه .. والثانية آه .. والثالثة آه
الأولة اشتكيها للي أجرى النيل
والثانية دمعي عليها غرق الباستيل
والثالثة لطشت فيها ممتثل وذليل
الأولة آه .. والثانية آه .. والثالثة آه."
ولم يكن وحده من شعر بهذا الحب والانتماء إلى مصر دون غيرها، فسمعنا ورأينا كثيرا عن يونانيين وإيطاليين سكنوا الاسكندرية طوال عمرهم ورفضوا الخروج منها والعودة إلى وطنهم، ورأينا يهودا رفضوا ترك مصر والخروج منها إلى دولة قيل لهم أن بها مستقبلهم ومستقبل أولادهم، ورأينا مصريين يعيشون عمرهم بالخارج مع بقائهم بنفس الشغف والحنين الذى رحلوا به عن مصر إلى مصر راغبين في دفن جثمانهم بأرضها حيث أمانهم وطمأنينتهم حيث وطنهم وحبهم الأول والأخير.
ما الشيء المميز بهذه الأرض ليشعر كل من يمر بها بالحب والحنين؟ ما الذي يجعلها وطنا لمن ليس له وطن بل وأحيانا لمن له وطن؟
نتحدث عن العدل والمساواة وأن قيمة الفرد بشخصه لا بأهله ولكن شئت أم أبيت لعائلتك تأثير بنظرة الناس إليك. وينادى العالم ويقول إن الجميع سواسية ولكن نظرة العالم إليك متأثرة بأصلك ووطنك ودينك، فمهما تظاهرنا بالمثالية والكمال فهناك ما ينقصنا ولو لم نعترف.
فقيمتك من قيمة وطنك؛ فإذا كان متحضرا كنت متحضرا وإذا كان أصيلا ذا تاريخ كنت أصيلا ولن تعامل معاملة الحر إلا إذا كان وطنك حرا.
التعليقات