التطورات الدولية والاقليمية الراهنة تدفع الى ضرورة بلورة مشروع قومى ينبع من احتياجات الشعوب العربية ويواجه التحديات المشتركة المحدقة بالمنطقة، بعيدا عن أوهام الزعامات التاريخية والأيديولوجيات التى عفا عليها الزمن. هناك أسباب عديدة تجعل من بلورة هذا المشروع أمرا عاجلا ،أو على الأقل مطروحا للنقاش الجاد على مستوى صناع القرار أو من جانب المتخصصين والنخب الوطنية فى عالمنا العربي. من أبرز هذه الأسباب : أولا تجدد الحرب الباردة، فقد كشفت أزمة أوكرانيا، عن تجدد الحرب الباردة، وأن مفاهيمها مازالت هى الحاكمة للمنافسة الأمريكية الروسية، فضلا عن التوترات المتنامية بين الولايات المتحدة والصين،التى تصاعدت فى عهد ترامب ثم تجلت فى زيارة رئيسة مجلس النواب الامريكى لتايوان مؤخرا، ورد الفعل الصينى الغاضب عليها. وفى الوقت نفسه شهدت العلاقات الصينية ـ الروسية تناميًا ملحوظًا فى الفترة الأخيرة، على المستويات الاقتصادية، والسياسية، والتكنولوجية والدفاعية، وفى ظل هذا الصراع تحولت ساحة الحرب الباردة من الغرب (الولايات المتحدة ومن ورائها الحلف الاطلنطي، والاتحاد السوفيتى السابق ومن ورائه حلف وارسو) فى الماضي، إلى الشرق حاليا ومنطقتنا تقع فى القلب منه. فى هذا السياق تسعى روسيا والصين إلى تغيير النظام العالمى الراهن أحادى القطبية الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة، وتأسيس نظام عالمى متعدد الأقطاب، ستكون له منظوماته الفكرية والقيمية مما يدعونا إلى طرح نفس السؤال الذى فرضته الحرب الباردة فى أربعينيات القرن الماضى وهو أين نحن من كل ذلك؟. ثانيا: ما تتمتع به منطقة الشرق الأوسط من مقومات حضارية وجيوإستراتيجية وطبيعية وسياسية واقتصادية ودينية، يجعلها دائما ساحة للتفاعلات الدولية، وفى الوقت الراهن تعيش المنطقة مرحلة إعادة ترتيب الأوضاع والتوازنات، بهدف تحقيق علاقات متوازنة مع الغرب والولايات المتحدة من ناحية ، ومع روسيا من ناحية أخرى، وهو ما تجلى فى موقف كثير من الدول العربية من قضية أوكرانيا والذى لم يتطابق مع موقف الولايات المتحدة من هذه القضية، فضلا عن وجود نوع من الانفتاح على الصين التى تتبنى مشروع ( الحزام والطريق) وفى القلب منه المنطقة العربية.
ثالثا: أدى ما شهدته المنطقة من أحداث وحراك خلال العقد الماضى إلى حدوث أزمات فى العديد من الدول العربية صاحبها نوع من الفراغ، حاولت دول إقليمية استغلاله، لخلط الأوراق وبسط النفوذ من خلال ثلاثة مشاريع ( المشروع الإسرائيلي، والمشروع التركى ، والمشروع الإيرانى ) وكل واحد منها يحاول جر المنطقة إلى ما يحقق مصالحه التى تتقاطع مع مصالح الشعوب العربية، ومواجهة ذلك تتطلب أن تتبنى الدول العربية إستراتيجيات موحدة فى إطار إقليمى منظم، تتفق مع المصلحة القومية وتتجاوز نقاط الخلاف بين الدول العربية .
رابعا: هناك توقعات بنشوب حرب صينية ـ تايوانية، واذا حدث ذلك ـ لا قدر الله ـ فسوف تنتج عنها ارتباكات شاملة ومعقدة تفاقم الأزمات الاقتصادية الناجمة عن الأزمة الأوكرانية، وتؤدى إلى اضطراب حركة التجارة العالمية، فى ضوء الاعتمادية العالية فى العالم على الصين لتلبية احتياجات الأسواق من السلع الزراعية والصناعية.
خامسا: إن الفكر الوحدوى العربى هو الحلم الذى نشأت عليه أجيال فى وطننا العربى منطلقا من حقائق الجغرافيا والتاريخ ،فالعرب لديهم توجهات مستمرة نحو المشاريع الوحدوية، بدءاً من الثورة العربية الكبرى عام 1916، مروراً بأكثر من 13 نموذجاً وحدوياً ثنائياً واقليميا على مدى أكثر من سبعين عاماً.!! كل ذلك يحتم علينا البدء سريعا فى وضع ملامح لمشروع تعاون عربى محدد الأطر والأوليات من واقع مصالح الشعوب العربية، يضع فى اعتباره بناء نموذجنا الحضارى المستقل، وفى الوقت نفسه يتلافى مسالب المشاريع السابقة التى ثبت فشلها. بحيث يحافظ المشروع المأمول على خصوصية كل مجتمع، ونظامه ويحترم سيادة الثقافة الوطنية والموروث السياسى لكل دولة. المشروع العربى المأمول لن يبدأ من فرغ، فقد شهدت المنطقة مبادرات لتنسيق المواقف بين الدول العربية فى فترات عديدة، أحدثها ما تم فى قمة جدة، ولدينا أطر قائمة للتعاون ضمن جامعة الدول العربية، بالمجالات الاقتصادية والأمنية والدفاعية. باختصار لدينا الموارد والرغبة الشعبية وتواجهنا تحديات مشتركة، وكل ما نحتاجه للتنفيذ هو الإرادة السياسية العربية. هذا المشروع كان فى الماضى حلما وأصبح اليوم ضرورة.
التعليقات