"لسنا ديمقراطية.. نحن سوق حرة .. والسوق الحرة تقوم على بيع الوهم.. وهي لعبة صفرية لا تنتهي إلا بالمكسب الكامل لنا والخسارة الكاملة للخصم.. الجشع فضيلة.. الجشع يفيد الجميع" هذا ما قاله جوردن جيكو بطل فليم (وول تسريت،1987) معبرا في وقت مبكر بجراءة وسخرية لاذعة عن عصر الاستهلاك الكبير الذي أريد له ان يكون بوابة الحياة المعاصرة لسجن الشعوب وحلبها بكل الطرق بعد تهيئتها عبر برامج وحملات دعائية استخدمت منجزات العصر العلمية وخبرات علمي النفس والإعلام في الإيقاع بالجمهور وتحويله الى زبائن او بعبارة أدق مجرد أرقام في قوائم المبيعات.
ولأن عصر الاستهلاك الكبير ازدهر في مركز الرأسمالية العالمية: الولايات المتحدة الأمريكية التي تشغل السينما فيها مكان الكاهن والفيلسوف ويعتبر الفن الأعمق تأثيرا فيه، فلا غرابة في أن نجد توضيحا أكثر لملامح هذا العصر الاستهلاكي في عمل سينمائي آخر هو الفيلم الكوميدي (نأسف للإزعاج، 2018) لمخرجه بوتس رايلي الذي يدخلنا منذ المشهد الأول في لب القضية حيث نجح (كاش) الذي يقوم بدوره الممثل لاكيث ستانفيلد، خلال مقابلة مع أحد مديري شركة (ريجال فيو)، في الحصول على وظيفة مسوق عقاري عبر الهاتف، ولكن لم يكن نجاحه نتيجة لكفاءته وأمانته وإخلاصه، وإنما بسبب ما اكتشفه فيه المدير من قدرة على الكذب والنصب والاحتيال، إنها القيمة الأبرز في مجتمع الشركات الكبرى كما رصدها بكفاءة محمد الفقي في كتاب( السينما في عصر النيوليبرالية)
وإذا كان القرنين الماضيين قد شهدا نضالا كبيرا من أجل الحرية ومواجهة الحكم الاستبدادي، كمحصلة لمفكري عصر التنوير، وهو ما تجلى عربيا في كتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبي، فإن القرن الحالي تتجلى فيه الرأسمالية بصورتها المتوحشة مدعومة بفكر الليبرالية الجديدة(نيوالبيرالية) التي عولمت الاستهلاك وجعلته سمة العصر ومحوره ،وربما غايته مما يستوجب علينا كشف ( طبائع الاستهلاك)!
ولكن قبل ان نستعرض هذه الطبائع علينا أولا أن نوضح الخلفيات الفكرية والاقتصادية التي أدت إلى هذا التوجه، فقد استفادت الرأسمالية من الثورة العلميّة الكبرى، التي انطلقت بين القرنين السّادس عشر والثامن عشر، وأسفرت عن مختَرعات أصبحت من أدوات الإنتاج الرّأسمالي، ومن الآليات الدافعة نحو مزيد من تحقيق الوفرة في السلع والمنتجات.ثم حدث تحول تاريخي في العملية الإنتاجية ، بسبب هذه الوفرة الهائلة في المنتجات، اذ لم يعد هدف الإنتاج هو اشباع الحاجات الأساسية او تلبية الطلب الفعلي كما هو المعتاد، وإنما تعمد النظام الرسمالي توليد حاجات جديدة لدى الإنسان لم يكن يحتاجها أصلا، ولا كان يبحث لنفسه عن طريقةٍ ما لإشباعها، لكنّ توليد الإنتاج الرّأسماليّ لها، وتوفير العَرضِ المغري لها، حولها إلى حاجة جديدة لديه وبالتّلي، دفعه إلى السعي إلى إشباعها.
هكذا نجح النّظام الرّأسماليّ في أن يضع البشرية، برمّتها، أمام نوعين من الحاجات – على حد وصف المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، النوع الأول مألوف وهو الحاجات الطّبيعيّة، المرتبطة بضرورات النموّ والبقاء؛ وقد فاقتِ الرّأسماليّةُ غيرها في إجابتها وإشباعها؛ والثاني حاجات صناعية، اصطنعتها للناس وأقنعتهم، مع الزمن، بضرورة إشباعها، ثم ما لبث المعروض عليهم من المنتجات المُشبعة لتلك الحاجات أن بات مألوفاً لديهم ومرغوباً، بالتّالي، جزءاً من عادات الاستهلاك الجمْعي،. هكذا صارت الصّناعةُ - وهي من ثمرات الرّأسماليّة، تزاحِم الطّبيعةَ في إنتاج الحاجات الإنسانيّة، بل تتفوّق عليها، أحياناً، بمعروضاتها لتخلق للإنسان طبيعةً ثانية تُجاور طبيعتَه الأولى.
ومهد كل ذلك الى ظهر عصر الليبرالية الجديدة (النيولبرالية) بعد أزمة النفط في سبعينيات القرن الماضي (العشرين) ثم سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث فقد الناس الثقة بالحكومات ليظهر الاتجاه إلى خصخصة المؤسسات المملوكة للدولة. وتم إضعاف النقابات العمالية بشكل ممنهج وخفض تمويل أنظمة الضمان الاجتماعي. وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي الأسبق كلنتون في خطابه السنوي أمام الكونجرس عام 1996 بقوله أن عصر "الحكومة المهيمنة قد انتهى" . واستمر هذا التوجه الذي لم توقفه الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨ حين اضطرت المؤسسات المالية لطلب المساعدات الحكومية لإنقاذها من الانهيار ومع ذلك استمرت الحكومات في خفض الانفاق على الصحة والتعليم وأنظمة الضمان الاجتماعي بينما تفشى أكثر نمط الاستهلاك الكبير. (وللحديث بقية)
التعليقات