اختيار عربة نقل الموتى اتسم بالوعي لأنه أوحي بأهمية «تكريم الإنسان» في حياته قبل مماته
احنا رايحين فين .. سؤال الأب في الفيلم.. هو سؤال كل الفقراء في العالم
كنت بصدد الكتابة عن فيلم «11:11»، قبل أن أجد أمامي مقالاً أراد كاتبه أن يُبدي حفاوة بفيلم «من أجل زيكو»، لكنه بدلاً من أن يُثني عليه، وصاحبه، وهو حق مشروع بكل تأكيد، قال : «لا يضير الفيلم أن يكون بلا رسالة»؛ لأن «الترفيه في حد ذاته رسالة»، كما أن «من حق الفنان أن يداعب جمهوره» .. ووصف الفيلم بأنه «بسيط لا يدعى أى شىء»!
العائلة البائسة
إبلاغهم بمشاركة زيكو في المسابقة
لم أصدق ما قرأت، واندهشت أن يضل كاتب المقال طريقه، وبدلاً من أن يمدح الفيلم يذمه، ومعني هذا إما أنه لم يُشاهد الفيلم، أو قرأه بشكل متعجل، بحيث غابت عنه رسالته؛ فالذي يمكن قوله، من دون مبالغة، إن اللافت في فيلم «من أجل زيكو» أنه يتبنى رسالة لا تخفى على أحد، ويطرح وجهة نظر واضحة، وقاطعة، انحاز خلالها إلى الفقراء، والبسطاء والمهمشين، وصب جام غضبه على «الأغنياء، الذين إِذَا أحكموا سيطرتهم على مجتمع أذلوه». وفي هذا السياق، الذي لا يمكن إنكار «نبرته الثورية»، رصد الفيلم، الذي كتبه مصطفى حمدي وأخرجه بيتر ميمي، ما يُعانيه الفقراء، والمهمشين، في المجتمع المصري، من فقر مُدقع، وأحلام مُجهضة، يُضاف إليها النظرة الفوقية، والمتعالية، للطبقة الأرستقراطية، وشعور الفقراء بالقهر والمهانة والإذلال، واليأس من تغيير الواقع، وضياع الأمل في غد أفضل، وهي الفجوة التي تُمهد لما يُطلق عليه «الصراع الطبقي»؛ فنحن أمام عائلة لا تمر بظروف طاحنة فحسب، وإنما تعيش «تحت خط الفقر»؛ يعولها الشاب، بسيط الحال، «فتحي» (كريم محمود عبد العزيز)، الذي يعمل سائقاً على عربة نقل الموتى، الذي توصف تأدباً ب «سيارة تكريم الإنسان»، بينما زوجته «صفاء» (منة شلبي) تكسب قوت يومها من طبخ الطعام، وطهيه، وتبيعه للأغنياء والمُترفين، وفي نفس الحجرة، فوق سطوح بناية مُتهالكة، في أحد الأحياء الشعبية، يعيش معهما نجلهما «زكريا أو زيكو» (الطفل يوسف أحمد)، وشقيق الزوج «عصام» (محمود حافظ)، العاطل، المُحتال، الذي يحلم بأن يُصبح «مطرب مهرجانات»، والوالد «خميس» (محمد محمود)، الذي تزوج على «أم فتحي» ثلاث نساء، قبل أن تموت الزوحة، ويُصاب بالألزهايمر، ومن ثم تضيق «صفاء» بظروفها الصعبة، فضلاً عن خشيتها أن تلقى مصير «أم فتحي»، في حال ورث زوجها طباع والده المزواج، فتطلب الطلاق !
المخرج بيتر ميمي مع أبطاله
بؤس ودموع الفقراء
بؤس .. وقهر
هو البؤس في أسوأ صوره؛ فالزوج الذي يرافق الموتى في رحلتهم الأخيرة، يؤمن أن «الإنسان يعيش ليعمل ويأكل وينام»، والزوجة التي تطبخ للأغنياء، وتُحرم على أفراد العائلة الفقيرة تذوقه، حتى لا يتأثر مكسبها القليل، كان طبيعياً أن ينظرا، ومعهما أفراد العائلة، إلى ترشيح «زيكو»، ضمن أذكى ثلاثة أطفال في مصر، للمشاركة في مسابقة اختيار الطفل الأذكي، التي تُقام في واحة سيوة، بوصفها «طاقة القدر»، التي ستُغير حياتهم، ولأن الحلم تجاوز الواقع، كان قرار تأجيل الطلاق، وسافر الأربعة، بسبب ضيق ذات اليد، وفي مفارقة تبعث على الأسى، بعربة نقل الموتى !
تطبح لغيرها
زيكو
هكذا انتقل الفيلم من «الواقعية»، التي تقترب من «الميلودراما»، إلى «أفلام الطريق»، وأصبحت الفرصة مهيأة، من خلال العابرين الذين تلتقيهم العائلة طوال الرحلة، لفضح مظاهر الخلل التي تنخر في بنيان المجتمع، وعلى رأسها الهوة الشاسعة بين الطبقات (عائلة مازن)، والانقسام والانفصال، بين الأغنياء المرفهين (دياب وليلى عز العرب)، الذين ينظمون حفلات تنكرية تُخصص جائزتها «لتأسيس ناد لصيد الأرانب البرية»، بينما يلهث الفقراء وراء حلمهم في عربة نقل الموتى، ويسرقوا ليأكلوا، والظلم والقهر (ضابط الشرطة)، والسطو، والاعتداء على الممتلكات (عصابة قاطع الطريق عمرو عبد الجليل)، بينما تمثل الاستثناء الوحيد في جماعة الباحثين الشباب، ممن يتخذون من الصحراء مكاناً لدراسة الأعشاب والنباتات لاستخلاص العقاقير، وتنظر إليهم العائلة بوصفهم قدوة لابنهم «زويل المستقبل»، حسبما راهنوا عليه، ومن ثم كانت صدمتهم قاسية، ومدوية، بعد أن كاد الحلم ينهار، قبل أن يستعيدوا الأمل !
فتحي وعصام والأب خميس
وسط هذه المأساة، اختار المخرج بيتر ميمي الممثل القدير محمد محمود، والممثل المُجتهد محمود حافظ، ليتحملا مسئولية الترويح عن الجمهور، بما يمكن تسميته «الكوميديا السوداء»، وفي حين لم يخرج محمد محمود عن الإطار المرسوم له؛ خصوصاً أن الشخصية مصابة بالألزهايمر (دخل التابوت ونام)، اتسم أداء محمود حافظ بالمبالغة، والغلظة أحياناً، ولم يكن التكرار سوى إهانة للمتلقي، في حين جاءت بعض الرتوش طريفة؛ كوجود أغنية «بودعك» لوردة، في عربة نقل الموتى، وفوز «فتحي» و«صفاء»، بجائزة أفضل أزياء ظناً من أصحاب الحفل التنكري أن ملابسهم الرثة، والبالية، إتقان في التنكر (!) والتوظيف الذكي لجماهيرية صوت محمد أسامة في أغنية «الغزالة رايقة» وعذوبة وشجن عبد الباسط حمودة في أغنية «في حته تانية»، التي عبرت عن رسالة الفيلم، ومقطع «ولا عندي لا اب ولا ام ولا عم أشكي له»، من أغنية «يا حبيبي تعال الحقني»، وكأنها تلخص معاناة العائلة البائسة في الفيلم، وحال الفقراء، الذين لا ظهر لهم !
في الحفلة التنكرية
قاطع الطريق تعاطف مع الطفل
تكريم الأحياء .. والأموات
لأكثر من سبب اتسم اختيار أن يقود البطل عربة نقل الموتى بالفطنة، والوعي؛ فالفيلم يوخي بأهمية تكريم الإنسان في حياته، قبل مماته، بأن نوفر للمواطن الحياة الكريمة، ونكفل له الاحترام الواجب، وكما أن للموت، وعربة نقل الموتى حُرمة (رفض قاطع الطريق الاستيلاء عليها لحرمتها)، ينبغي أن يكون للمواطن حُرمة، وكرامة، ونُقدر من يستحق (أحمد عبده أقام جسراً فوق ترعة للأهالي فأطلقوا اسمه على مدرسة في القرية)، وعلينا ألا نُقصر في إدخال الفرحة إلى القلوب، بأن نُسهم في تحقيق الحلم، ونجد مكاناً، في المجتمع، «للغلابة»، ونساوي بين أبناء المجتمع في التعليم، ونسعى إلى إعمال مبدأ تكافؤ الفرص، ونُفسح مجالاً لأصحاب المواهب، جنباً إلى جنب مع المتعطشين للعلم، وهي الرسائل الكثيرة، التي تبناها فيلم «من أجل زيكو»، الذي لم يكن في حاجة، مُطلقاً، للاقتباس من الفيلم الأمريكي Little Miss Sunshine(2006)، من دون أي تنويه، وهي حقيقة دامغة، بعيداً عن الادعاءات الساذجة للكاتب مصطفى حمدي؛ فالاقتباس تجاوز الفكرة (اللهاث وراء حلم تغيير الواقع عبر مسابقة ملكة جمال هناك ومسابقة أذكى طفل هنا) إلى النقل شبه الحرفي للمواقف (التوقف لتقديم أفكار عابري الطريق)، بل أن عدد أفراد العائلتين واحد في الفيلمين (4 أفراد)، كما أن الانتقال من بلد إلى آخر يتم بسيارة ميكروباص (إذا كان الانتقال من نيو مكسيكو إلى كاليفورنيا مبرراً في الفيلم الأمريكي فلم يكن هناك أي مبرر لانتقال العائلة من القاهرة إلى سيوة، خصوصاً أنها لم تُستثمر بصرياً !)، بينما تكمن المفاجأة في أن السينما المصرية سبق لها تقديم فكرة مماثلة (رحلة الاكتشاف)، بطريقة أخرى، في فيلم «ثلاثة على الطريق» (1993)، تأليف وإخراج محمد كامل القليوبي، وبطولة محمود عبد العزيز، بينما كان للسينما البريطانية سبق تناول فكرة المسابقة، التي يتقدم لها طفل يتحول بعدها إلى نجم ذائع الصيت، في فيلم «مليونير متشرد» Slumdog Millionaire (2008).
ماذا يُخبيء المستقبل
مازال يحدوهما الأمل
وعودة إلى فيلم «من أجل زيكو» لنُشيد بموسيقى خالد الكمار، وبراعة كريم محمود عبد العزيز، في تجسيد شخصية المواطن المهزوم، ومنة شلبي، المغلوبة على أمرها، التي تضع أمالاً كثيرة على الطفل، والمسابقة، وكأنهما طوق النجاة لحياتها، وإن بدت «صفاء»، من حيث الشكل، أقرب إلى «نوارة»، في فيلم هالة خليل (2015)، بيينما تركت، من حيث المشاعر الإنسانية، تأثيراً كبيراً؛ خصوصاً في مونولوجاتها، التي تحدثت فيها عن الحلم الذي صدقته، والفرحة التي انتظرتها، والصدمة التي لا تتمناها، مؤكدة أنها لا تملك شيئاً لتبكي عليه، بينما يبقى سؤال الأب «خميس» : «احنا ايه اللي جابنا هنا ؟»، السؤال الوجودي على لسان فقراء العالم.
من أجل زيكو
مواساة
أبعد هذا كله يخرج علينا من يقول إن فيلم «من أجل زيكو» لا يقول شيئاً، و«لا يحمل رسالة»، و«مجرد عمل يستهدف الترفيه» و«دعُابة ليس أكثر» وأنه «فيلم بسيط لا يدعى أى شىء غير الفرفشة»؟
عفواً يا سادة نحن أمام «مانفيستو سينمائي» بمعنى الكلمة!
التعليقات