«اللعبة» بدت وكأنها «روليت» روسية، استبدلوا فيها المسدسات بالهواتف!
لكل شخص ثلاث حيوات: عامة وخاصة وسرية.. ومن هنا كان الاجتماع ليلة خسوف القمر
المراهقة التي فجرت عاصفة من الاحتجاج وسيط فاعل في منظومة تعرية النفوس وكشف المستور التي اختارها صناع الفيلم
المتابع لغالبية ما كُتب عن فيلم «أصحاب ولا أعز» لابد تتملكه الدهشة حيال التركيز الواضح على التعامل معه من المنظور الأخلاقي، والابتعاد تماماً عن تقييمه من الناحية الدرامية والفنية، ومن ثم انصب الهجوم على الزوجة المصرية، التي خلعت قطعة من ملابسها الداخلية، والمراهقة اللبنانية، التي تمتلك واقي ذكري، وتطالب والدها أن يسمح لها بأن تنام مع صديقها، وتسابقوا جميعاً للمطالبة بمصادرة الفيلم، ومحاكمة أبطاله، وحجب المنصة التي أنتجته، ولم يتبرع أحد، بتناول عناصره المميزة، وعلى رأسها حبكته المُثيرة، وحواراته الممتعة، ومواقفه الشيقة، والأداء الساحر لأبطاله.
المفاجأة الأكثر إثارة أن قراءة الفيلم، بدقة وتمعن، يقود المشاهد إلى اكتشاف أن كل ما جرى أمامه من اجتماع سبعة أصدقاء قدامى على مائدة العشاء، واقتراح زوجة أحدهم أن يضعوا هواتفهم على المائدة، بحيث تُصبح مكالماتهم ورسائلهم النصية، والإلكترونية، على مرأى ومسمع من الجميع، قبل أن تنقلب «اللعبة» إلى كابوس مُرعب؛ تُصبح فيه الأسرار، والفضائح، والنزوات، نذير خطر يُهدد حيواتهم، جميعاً، بالإنهيار، هي حبكة خيالية لسيناريو غاية في الإتقان، أسهمت في ارتفاع أسهم الفيلم، وجعلته أيقونة تُقدم بكل لغات العالم، حتى يمكن القول إن النسخة العربية، التي أنتجت بعنوان «أصحاب ولا أعز»، رغم عنوانها الركيك، هي النسخة 18، بعد النسخ : الإسبانية، المكسيكية، الصينية، الكورية، البريطانية، الأمريكية، الفرنسية، التركية. وهي مناسبة للرد على الاتهامات، التي طالت «أصحاب ولا أعز»؛ بحجة أنه منقول «بالقلم والمسطرة»، وبالحرف والكادر، والجمل الحوارية، وزوايا التصوير، والديكورات، وحتى شكل الأبطال، من النسخة الإيطالية، حتى أن أحد المنتقدين وصف هذا بأنه «مُحبط»، واتهم آخر النقل الحرفي، بأنه «مُبالغة في الالتزام» لا تتسق وفارق السنوات الستة، التي تفصل بين إنتاج الأصل الإيطالي والنسخة العربية. وما ينبغي التأكيد عليه هنا أن الإلتزام الحرفي بالنسخة الأصلية، لم يكن من قبيل «الاستسهال» أو«الإفلاس»، بل خضوعاً لقانون الملكية الفكرية، والحقوق المادية والأدبية، وشروط الجهة الأم، التي التزمت بها الجهة المنتجة للفيلم العربي (منصة نتفليكس)، وهو مالم تعتده، في الغالب، شركاتنا الإنتاجية !
الخسوف .. و«اللي اختشوا ماتوا»
هنا لابد من التوقف عند الارتباط الوثيق بين اجتماع الأصدقاء السبع، ليلة خسوف القمر، ولعبة الاعتراف المثيرة، التي تلاعبت بالممثلين، والجمهور، على حد سواء، وجعلت أقرب الأصدقاء، غرباء أمام بعضهم البعض. ومن هنا جاء عنوان الفيلم الإيطالي الأصلي Perfect Strangers «غُرباء تماماً» (2016)، الذي أخرجه باولو جينوفيز، وكتب له السيناريو مع فيليبو بولونا وباولو كوستيلا؛ فمثلما يحدث عندما تكون الشمس والأرض والقمر في حالة اقتران كوكبي كامل، فيحجب ظل الأرض وضوء الشمس ضوء القمر، في الظاهرة المُسماة «خسوف القمر»، والتي يبدو منها وكأن للقمر وجهان؛ أحدهما مُضيء والآخر مُظلم، يوحي الفيلم بأن للبشر نفس الوجهين، أو كما قال المخرج الإيطالي في تقديم فيلمه : «كل شخص له ثلاث حيوات : حياة عامة، حياة خاصة وحياة سرية»، وسواء أكان «خسوفاً» أم «كسوفاً»، كما اختلف أصدقاء الفيلم في تسمية الظاهرة الكونية؛ فالرسالة وصلت، والمعنى اكتمل، مع تلاعب البطلة «مريم» (منى زكي) بكلمتي «كسوف» «خسوف» وقولها :«اللي اختشوا ماتوا». لكن المفارقة، بحق، أن الفيلم يخلو، باستثناء الحوار الجريء، من أي قبلة أو حضن دافيء، أو فعل فاضح، أو صورة خادشة للحياء (اكتفى بالايحاء فقط أن «شريف» (إياد نصار) يتلقى صوراً إباحية على هاتفه)، حتى تخاله «فيلم محافظ» أو واحداً من أفلام «السينما النظيفة» !
بلاغة التوصيل
هل نرتدي، طوال الوقت، أقنعة، تخفي وجوهنا الحقيقية، ومن ثم أسرارنا، ونزواتنا ؟ أم أننا نعيش حياة مزدوجة نتعمد إخفائها عن أقرب الناس إلينا، ولما تهيأت لنا حياة افتراضية وجدناها فرصة للفضفضة والإفصاح عن الأحاسيس المكبوتة، والمشاعر المخنوقة ؟ وماذا لو كانت صرخة «ربيع» (فؤاد يمين)، التي ندد فيها بالدور المُريب الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا؛ من تنصت، وتدخل في حياتنا، وضياع لخصوصيتنا، بينما نحن خانعين ومستسلمين وقابلين، صرخة صادقة، وصادمة، وهو يهتف : «دمرونا وخسرونا حياتنا.. العطسة يسمعها الكون كله.. الخصوصية ضاعت.. وين ما نتحرك يعرفوا» !
هكذا، وبكل الطرق السينمائية البليغة في التوصيل، ومن دون مباشرة من أي نوع، وظف المخرج وسام سميرة عناصره وأدواته؛ فالمراهقة «صوفيا» (شنيد شعيا)، التي فجرت عاصفة من الاحتجاج بسبب سلوكها المتحرر، هي ابنة طبقتها، ولسان حال جيلها، ووسيط فاعل في سياق منظومة تعرية النفوس، وكشف المستور، التي اختارها صناع الفيلم، وعبروا عنها بأكثر اللحظات إنسانية، وإن بدت قاسية؛ فالأب «وليد» (جورج خباز) سر ابنته المراهقة، وعقلها، يتفهم أنها بلغت الثامنة عشرة من عمرها، ويحاورها برقي، وتحضر، ويؤكد لها أنها صاحبة القرار، بينما الأم «مي» (نادين لبكي) مازالت تراها طفلة، تُعنفها وتصرخ دائماً في وجهها، وتهرب من مواجهتها. وهي الشخصية المتعالية نفسها، التي تتعامل بها مع زوجها المتسامح، لكننا لا ندرك أنها تخونه سوى في مشهد ذكي، يحترم المتلقي، من دون ثرثرة فارغة؛ مثلما فعل عندما أوحى بتوتر العلاقات الجنسية، وتفاعل المشاكل المعتادة، بين جميع الأزواج، وتكتم على مثلية «ربيع» (فؤاد يمين)، الذي اضطرته الظروف وحدها إلى الكشف عنها، كما تكتم على الحادث المروري، الذي تورطت فيه «مريم»، أثناء قيادة سيارتها، وهي مخمورة، وسُجن «شريف» بدلاً منها، لكنه لم يتوقف عن إذلالها، ومعايرتها بتضحيته، وصارت مقولته : «موت وخراب ديار» تعني موت الرجل .. وموتها كزوجة، تماماً كالاشتباه في كون أحد المقربين مثلي الجنس، لأن هذا يعني، على الفور، الحكم بإعدامه !
براعة في بناء السيناريو المُحكم (مع عودة "القمر" إلى طبيعته عادوا جميعاً إلى سيرتهم الأولى، وممارسة حياتهم الطبيعية)، وبلاغة في الحوار الشيق، الذي يجمع بين الواقعية والطرافة، ويعكس خلفية وثقافة الشخصيات الدرامية (بصالك ومش عارفة انت مين)، خففا وطأة المكان الواحد، وهو الإبداع الذي يُحسب للمخرج الموهوب وسام سميرة، الذي كتب، مع غبريال يمين، النص المأخوذ عن الفيلم الإيطالي، بينما صاغ الحوار، بحرفية رائعة مريم أبو عوف وسامر عقل، وجاءت حركة الكاميرا (تصوير سفيان الفاني) لتخلق الإثارة غير المتوقعة، في فيلم يعتمد على الحوار ويخنقه المكان الواحد، بينما كان لموسيقى خالد مزنر، التي انسجمت فيها آلات البيانو والجيتار والفيولينا والتشيللو معاً، الفضل في تهيئة أجواء الترقب والتوتر، والتمهيد لنُذر الخطر، التي خيمت على المكان، وإذا كانت مزية الفيلم الاختزال، وعدم إغفال التفاصيل الصغيرة، والبناء عليها، فإن الفضل في هذا يعود إلى شيرين ديبس، التي أسهم مونتاجها في خلق إيقاع غاية في التشويق والمتعة والإثارة. أما طاقم التمثيل، الذي تكون من سبعة ممثلين رئيسيين هم : منى زكي، نادين لبكي، إياد نصار، جورج خباز، عادل كرم، فؤاد يمين، ديامان أبو عبود، بالإضافة إلى شنيد شعيا، التي لعبت دور الفتاة المراهقة، وريموند سعد عازار، التي لعبت دور الجدة (أم شريف)، وطفلي «مريم» و«شريف» : كلاريتا أزاديان، في دور «سارة»، ويوسف محسن، في دور «عماد»؛ فقد شهد الفيلم مباراة شرسة بينهم، وكأن كل واحد منهم في تحد مع نفسه، قبل الآخرين؛ إذ لم يكن هناك وجود للافتعال، والاصطناع، والصنعة، ورغم ما يبدو أمامنا من مساحة للارتجال، والتلقائية، فالأمر الواضح أن كل شيء محسوب، ومدروس، بعناية، بعد ما بدت «اللعبة» وكأنها «روليت» روسية، استبدلوا فيها مسدساتهم بهواتفهم !
التعليقات