لم تولد وفي فمها ملعقة من الذهب، لكنها نشأت وترعرعت في كنف عائلة منفحتة، ومستنيرة، لم يتوان والدها الشاعر والمفكر السعودي عبد الرحمن المنصور، لحظة، عن دعمها، وتشجيعها على ألا تتوقف عن الحلم، وهو ما فعلته والدتها، القوية، التي آمنت بموهبتها، ولم تأبه بما يقوله الآخرون، بل ثمنت طموحها، وبثت الثقة في نفسها، لكن أكثر ما يلفت النظر أن العقلية المتفتحة للعائلة انعكست على شقيقتها هند المنصور، فأضحت فنانة تشكيلية، بينما شارك شقيقها، الذي يصغرها بعامين، بالتمثيل في فيلميها القصيرين «من..؟» و«الرحيل المُر»، وساعدها شقيقها الأكبر في كتابة سيناريو فيلم «أنا والآخر».
وفي ظل سياق متحضر كهذا، وبيئة راقية كتلك، واحترام متبادل جمع بين أفراد العائلة الشجاعة، تشكل فكر، ووجدان، الطفلة «هيفاء»، التي لم يُفارقها الشعور بالأمان، ومن ثم واجهت العالم من حولها، مدفوعة بثقة كبيرة في نفسها، وإيمان كامل بقدرتها على أن تُحقق ذاتها.. ولم تمض سوى سنوات قليلة، لتُصبح «هيفاء المنصور» حديث العالم.
العدد الأول من نشرة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي
نعم أصبحت حديث العالم؛ فالطفلة التي ولدت في الأحساء، بالمملكة العربية السعودية، وتنحدر أصولها من الزلفي في نجد، التحقت بعد المراحل المدرسية السعودية، وبتشجيع من والدها، بالجامعة الأميركية في القاهرة؛ حيث درست الأدب الإنجليزي، ورغم أن صالات السينما لم تكن مألوفة في المملكة وقتها، إلا أن شغفها بالسينما، جعلها تحصل على درجة الماجستير في الفيلم، والنقد السينمائي، من جامعة سيدني في أستراليا، وعقب عودتها للسعودية انخرطت في إنجاز أفلام تعنى بالمرأة، وهمومها، ومعاناتها، والضغوطات التي تعيشها، والقيود المفروضة عليها، ليس من قبيل المتاجرة بها، أو «بيع فولكلور الشرق للغرب»، بل من منطلق «نظرة إصلاحية» خالصة، وكراهية مطلقة لما يُطلق عليه «تسليع المرأة»؛ بدليل أنها لم تتوقف، في أفلامها؛ مثل «نساء بلا ظل»، عند هموم المرأة السعودية فحسب، بل قدمت نظرة أشمل لمعاناة المرأة بوجه عام، كما اهتمت بالكثير من الإشكاليات الثقافية والفكرية، مثلما فعلت في فيلم «أنا والآخر»، الذي تناول قضية التعددية الفكرية في السعودية، وبات يُنظر إليه بوصفه واحد من التجارب الرائدة على صعيد السينما المستقلة الخليجية.
وبعد ما نجحت «المنصور» في إثبات جدارتها، وموهبتها، في مجال صناعة الأفلام القصيرة والوثائقية، كان قرارها الجريء بالتصدي لإخراج فيلمها الروائي الطويل الأول «وجدة» (2012)، الذي كتبت له السيناريو، وحققت من خلاله أرقام قياسية عدة؛ إذ صورته بالكامل في العاصمة السعودية الرياض، ومن ثم أصبح أول فيلم طويل يُصور بالكامل داخل حدود السعودية، وأول فيلم سعودي من إخراج امرأة، وأول فيلم سعودي يمثل المملكة في مسابقة أوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، وأول فيلم تحصل صاحبته على ثلاث جوائز في مسابقة Venice Horizons Award بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي عام 2012.
العدد الأول من نشرة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي
الأهم – هنا – أن قناعات «المنصور» لم تتبدل، أو تتلون، في فيلمها الطويل «وجدة»، ولا في أفلامها التي أنجزتها بعد ذلك؛ وإنما طرحت رؤيتها الإصلاحية، والتقدمية، بنفس الإحترام، الذي عهدناه في أفلامها القصيرة والوثائقية، والروح المتمردة الطامحة دوماً للتغيير؛ فأن تحلم الطفلة السعودية «وجدة» بامتلاك دراجة هوائية، بعد البلوغ، هو الطموح المستحيل، وكما احترمت هيفاء المنصور جمهورها، احترمها العالم، وهي تجوب ربوع الأرض، بالفيلم، وتحصد الجائزة تلو الأخرى، والأهم أنها نسفت الصورة الذهنية القديمة التي انطبعت في الأذهان عن المرأة السعودية، والمملكة بوجه عام.
في رأيي أن سنوات التكوين أثرت كثيراً في شخصية، ثم مسيرة، هيفاء المنصور؛ فقد اختارت أن تكون مستقلة؛ سواء في الأفكار، التي تتبناها، أو الأسلوب، الذي تنتهجه، وبينما خُيل للبعض أنها سعت إلى تحطيم «التابوهات»، وانقلبت على التقاليد، كراهية في المجتمع المُحافظ، أزعم أنها تحلت بروح عائلتها «الليبرالية»؛ فاحترمت المختلفين معها في الرأي، ولم تزدر، يوماً، أفكار الآخر، وظلت على قناعة أن صلاح المجتمع في تكامله .. واختلافه. وربما لمجمل هذه الأسباب أرى أن هيفاء المنصور «رائدة» Pioneer، بمعنى الكلمة؛ فهي سباقة على أكثر من صعيد؛ فقد اختارت الأفلام القصيرة كنوع من التنفيس، والتعبير عما يُخالجها من أفكار تستهدف تغيير وضعية المرأة، ولأنها وجدت أن عملها بالسينما يؤكد ذاتها، ولما وجدت أن صناعة الأفلام القصيرة لم تعد كافية تحولت إلى الطويلة، وفي هذه وتلك لم تتخل عن روح الهواية، وطوال الوقت تشعر وكأنها تستمتع بعملها، وأفلامها، التي تقول عنها، بزهو : «كلهم أولادي» .
وفي كل المهرجانات السينمائية الإقليمية والعالمية تكون محل ترحيب، وحفاوة، بينما لا تتوقف، لحظة، عن الاعتزاز بثقافتها العربية، وتأكيد هويتها، وتفاؤلها الدائم بأن القيود على الفن ستزول، وصناعة السينما ستزدهر، في المملكة، التي تصفها بأنها «بيئة ناضجة للدراما»، وأن لديها الكثير من القصص التي ينبغي أن تجد لها مكاناً على الشاشة؛ كونها تخلق التفاعل المنشود بين القديم والحديث، أو بين الأصالة والمعاصرة .
التعليقات