* في «غُدْوَة» تنديد بالديكتاتورية ودعوة لتكريس العدالة وإعلاء قيمة الحقيقة.
* .. وفي «قُدْحَة» فضح للصراع الطبقي والفقراء الذين يدفعون ثمن الحياة الأبدية للأغنياء!
اتسمت أعمال الدورة ال 43 لمهرجان القاهرة السينمائي (26 نوفمبر – 5 ديسمبر 2021) بحضور كبير للسينما العربية، حتى تخاله مهرجاناً دولياً للفيلم العربي، أو كأنه تحول إلى ساحة لانتفاضة سينمائية عربية، أعلنت عن نفسها في «ميدان الأوبرا» !
غير أن المفارقة المثيرة أنك لو سألت : «من وراء هذه الانتفاضة ؟» فستجد أن الْإِجَابَةِ : « تُونُسَ» !
بالفعل تركت السينما التونسية بصمتها، بقوة، على المهرجان؛ من خلال ثلاثة أفلام هي : «أطياف» و«غُدْوَة» و«قُدْحَة»، وفي حين لم أتمكن من مشاهدة فيلم «أطياف» (تونس / لوكسمبورج/ فرنسا / 122 دقيقة)، إخراج مهدي هميلي، (تسجن «آمال»، في تونس العاصمة، على خلفية اتهامها بالزنا، وبعد إطلاق سراحها تبدأ رحلة البحث عن ابنها الوحيد، والعثور على ما فقدته من ذاتها، والتصالح مع مجتمع عنيف ومتطرف).
وفي ما يبدو أن «المصالحة»، أصبحت الهاجس، الذي يؤرق السينمائيون التونسيون، وإن اختلف التوجه، والهدف؛ ففي فيلم «غُدْوَة» (101 دقيقة)؛ الذي يُعد أول تجربة للممثل التونسي ظافر العابدين؛ كمخرج ومنتج وكاتب للقصة التي صاغ لها السيناريو الكاتب والمخرج المصري أحمد عامر، يتبنى «حبيب» (ظافر العابدين)، محامي حقوق الإنسان، الذي تعرض للسجن إبان حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ما انعكس سلباً على حالته الذهنية، والبدنية، وتفرغ للدعوة إلى توضيح الحقيقة، تكريس العدالة، ثم المصالحة، ولا تدري هنا أية مصالحة يقصدها «العابدين»، ومع من؟، لكنه يُقدم فيلماً له أهميته، في سياق مناهضة الكبت والقهر وانتهاك الحريات، وإهدار الآدمية، وادانة الديكتاتورية، والانتهازية السياسية (صديقه المناضل القديم «سي علي» (غانم الزرلي)، الذي قفز على مبادئه، ومواقفه، القديمة، بعد ما تربع على كرسي السلطة، وراح يُطالبه بأن ينسى «الماضي» ويُركز في «المستقبل»، لكن «حبيب»، الذي يبدو كمريض الوهم، يعيش، في خياله، قصة حب وجارته «سعدية» (رباب السرايري)، فيما يؤمن أن المستقبل لا يجيء ما لم يعد حق ضحايا الانتهاكات الجسيمة، وتظهر الحقيقة، لكنه في نظر زوجته «لمياء» (نجلاء بن عبد الله)، التي انفصلت عنه، مخبولاً يهذي، بينما يُشفق عليه نجله «أحمد» (أحمد بن رحومة )، ويؤمن، في قرارة نفسه، بأنه «ضحية» أيضاً، ومن ثم يُكمل، بعد اعتقال الأب، مشواره، ويحمل عنه أمانة الدعوة إلى البحث عن الحقيقة، والمُطالبة بتكريس العدالة، وانتظار الثورة الجديدة.
لكن قضية الفيلم الحيوية لم تشغل «العابدين» عن تقديم نفسه كمخرج؛ فوظف أغنية «عندما يأتي المساء» لعبد الوهاب، وتحديداً مقطع «لم أجد في الأفقِ نجماً واحداً يرنو إليَّ»، بشكل رائع، ودان القهر والقمع بكل صوره (اعتقال شاب في الحافلة لمجرد أنه جاء من بلدته يبحث عن وظيفة في العاصمة)، ولخص شخصية البطل، بذكاء ووعي شديدين؛ عندما أظهره كمدمن قراءة لرواية «المحاكمة» The Trial للكاتب الشهير فرامز كافكا، وكأنه يوميء إلينا أن «حبيب» هو نفسه «جوزيف ك»، بطل كافكا، الذي استيقظ ذات صباح ليجد نفسه مُعتقلاً . وإضافة إلى هذا كله نجح ظافر العابدين، كمخرج، في إحكام قبضته على ممثليه، وإظهار أفضل ما في جعبتهم؛ مثلما فعل مع أحمد بن رحومة، الذي جسد دور ابن البطل «حبيب»، بثقة، وبراعة، وحرفية، والأهم أنه – أي «العابدين» - اكتشف نفسه كممثل قدير مختلف عن كل ما قدمه من أدوارمن قبل !
التكثيف في «قُدْحَة»
«أولادكم ليسوا لكم .. أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها»، مقولة للشاعر جبران خليل جبران، من كتابه (النبي)، صدَر بها المخرج التونسي أنيس الأسود فيلمه الروائي الطويل الأول «قُدْحَة» (92 دقيقة)، الذي أظهر من خلاله قدرة عالية على الإيجاز، والتكثيف، وقدم رسالته شديدة الأهمية، بسلاسة، وفطنة، ومن دون مباشرة، أو خطابة؛ فالذاكرة تفودنا إلى أفلام كثيرة؛ لعل على رأسها الفيلم المصري «إلحقونا» (1989)، تأليف إبراهيم مسعود، وإخراج علي عبد الخالق، وبطولة نور الشريف، الذي كان أول فيلم عربي يتناول قضية سرقة الكلى، بواسطة مافيا عالمية لها فروع مصرية، لكن أنيس الأسود، الذي كتب سيناريو فيلم «قُدْحَة»، بمشاركة شامة بن شعبان، التي جسدت شخصية أم في الفيلم، عالج القضية بشكل احترم عقلية المُتلقي، ولم يلجأ إلى تلقينه، كما تفعل غالبية الأفلام العربية؛ فالفيلم يأخذ انتباهك إلى الطفل «قُدْحَة» (ياسين ترمسي)، ومغامراته مع رفاقه الصعاليك، الفقراء، على الشاطيء، وتظن أنك بصدد فيلم عن المراهقين، ويستمر في التغرير بك، عقب إصابة الطفل في حادث، يستدعي نقله إلى المشفى، وصدمة الأم «بركانة» (درصاف ورتتانى)، لأنها عاجزة عن تدبير كلفة عملية ابنها، وتتصور، كمتفرج ساذج، أن تدخل العائلة الارستقراطية، المكونة من «مُعز»(جمال العروى) وزوجته (شامة بن شعبان)، والجدة (الفنانة القديرة أنيسة لطفى)، كان لوجه الله، ومن باب الإنسانية؛ عندما وافقت على تحمل كلفة علاج «قُدْحَة»، قبل أن ينزاح الغموض تدريجياً، ويبدأ المخرج في إزاحة الغمامة عن عين المتفرج، الذي يُدرك بعدها أن عائلة «المُعز» فعلت صنيعها من أجل ابنها «أسامة» (أحمد زكريا شيبوب)، الذي يُعاني الفشل الكلوي، وفي حاجة إلى جراحة عاجلة، ومن ثم فالطفل الفقير «قُدْحَة» ( اسمه مُرادف الشعلة)، هو كبش الفداء، أو الأضحية، التي تُقدم لافتداء «أسامة» !
الصراع الطبقي، في أكثر صوره استفزازاً، وعنجهية ونعالي وكبر الطبقة الأرستقراطية، في تعاملها والطبقة الفقيرة، والمال القادر على شراء كل شيء، ورسائل كثيرة؛ من بينها مثلاُ ظاهرة «الحراقة»، كما يُطلق عليها في تونس، في إشارة إلى الهجرة غير الشرعية، تبناها فيلم «قُدْحَة»، الذي بدا وكأنه يقود «شُعلة» التنوير، وبمثابة «شرارة» الثورة، ومع نُبل قضيته، وبلاغة رسالته، تواضع المخرج كثيراً، ولم يتعال، في طرحه السينمائي، واختار البساطة كلغة فنية، سواء في التصوير (مديرا التصوير أمين المسعدي وأدونيس بن رمضان) أو السرد، والبناء، والميل للغموض، كسبيل للتشويق، ويكفيه أنه ترك لنا، وحدنا أن نبحث ونتقصى، ونقرأ، ونفهم، ونصل إلى بقية مقولة جبران خليل جبران : «أولادكم يأتون إلى العالم, ويعيشون معكم, لكنهم ليسوا ملكاً لكم .. تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم, لكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم, لأن لهم أفكارأً خاصةً بهم».
التعليقات