ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مرّ عليّ وعلى آبائي من أحداث، فكل ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته، بل من يوم أن كان علقة، بل من يوم أن كان في دم آبائه، وكل ما يلقاه أثناء حياته، يستقر في قرارة نفسه، ويسكن في أعماق حسه، سواء في ذلك ما وعى وما لم يعِ، وما ذكر وما نسي، وما لذ وما آلم، فنبحة الكلب يسمعها، وشعلة النار يراها، وزجرة الأب أو الأم يتلقاها، وأحداث السرور، والألم تتعاقب عليه، كل ذلك يتراكم ويتجمع، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل أساسًا لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة، وكل ذلك أيضًا هو السبب في أن يصير الرجل عظيمًا أو حقيرا، قيمًا أو تافهًا، فكل ما لقينا من أحداث في الحياة، وكل خبرتنا وتجاربنا، وكل ما تلقته حواسنا أو دار في خلدنا هو العامل الأكبر في تكوين شخصيتنا، وكل إنسان هو نتيجة لما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطت به.
هذا ما كتبه المُفكر الإسلامي أحمد أمين في كتابه "حياتي"، الذي يضم سيرته الذاتية، ويستعرض تجاربه الحياتية منذ الطفولة، وكيف ساهمت طفولته في تكوين شخصيته، والكتاب لا يستعرض فقط حياته الشخصية، بل يستعرض أيضاً الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في مصر خلال الفترة التي عاصرها المُفكر الراحل أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
قرأت هذا الكتاب منذ أكثر من 25 سنة، وأذكر أنني قرأته أكثر من مرة، لأنني تأثرت كثيراً، بالتفاصيل الدقيقة التي يسردها عبر حكايات وتجارب عاشها بالفعل، تعكس كيف كان للبيت وللوالدين دوراً أساسياً في التربية والنشأة والتكوين؟، وكيف عاش هذا المفُكر العظيم، في بيت بسيط أثاثه من الحصير، ولا يوجد فيه أسرَّة في حجر النوم فقط لحافاً ومخدة تُطوى في الصباح، وتُبسط في المساء، وكان أثمن ما في البيت هو الكتب التي تحتل كُل أركانه، ولم تكن المياه تجري في البيوت وإنما سقَّاء يحمل القربة على ظهره ويتجول في القرية، أو المدينة، ويوزعها على البيوت، ولم تكن هناك كهرباء، بل مصابيح الكيروسين، وكان الطعام يُطهى على نيران الخشب.
بالإضافة إلى كل التفاصيل الدقيقة لتلك الحياة البسيطة، جذبني كيف كشف لي الدور المفقود الآن للأب وللأسرة في التربية والتوجيه والإرشاد والتعليم والنُصح، جذبني كيف نجح هذا الأب في غرس الرضا والقناعة بكل الحب في أبنائه؟، رغم تلك الحياة البسيطة والمتقشفة أحياناً.
لماذا تذكرت هذا الكتاب الآن؟ تذكرته لأن ما كتبه المُفكر أحمد أمين عن تكوين الشخصية التي هي نتاج ما نتوارثه عن آبائنا، وما نكتسبه من البيئه التي نشأنا فيها، وأحاطت بنا، يُفسر ما نعيشه الآن من تغيرات مجتمعية، تعكس هذا الدور المفقود للأسرة، في تربية الأبناء، لتطفو على سطح المجتمع كل أنواع الخلل الأسري، والأخلاقي، والتربوي، والتعليمي.
تذكرته لأنه يؤكد دائماً وجهة نظري أن التربية ليست لها علاقة بالفقر أو الثراء، لكن لها علاقة، بما يتلقاه الإنسان منذ يوم ولادته، سواء وُلد في قصر وسط الخدم والحشم، أو وُلد في كوخ صغير، فالتربية فطرة ومَلكة وإدراك ووعي وإحساس ومشاعر، وأشياء كثيرة ليس من بينها المال والثراء.
تذكرته للتأكيد على أن الانحدار الأخلاقي الذي نعيشه الآن ليس له علاقة بالفقر أو الثراء، بل له علاقة بدور الأب المفقود، فرجل الأعمال الشهير الذي تفرغ لدفع تعويضات لعائلات ضحايا نجله، والآخر الذي تورط نجله في قضية مُخلة بالشرف، والآخر الذي وكَّل جيش من المحامين للدفاع عن نجله في قضية الاغتصاب الجماعي، وغيرهم العشرات وربما المئات، لم يكن لديهم الوقت الكافي لتربية أبنائهم، وتعليمهم أن هذا العالم لم يُخلق لهم وحدهم، بل خُلق أيضاً لضحاياهم، وضحايا دورهم المفقود في تربية أبنائهم.
وعلى الجانب الآخر من الحياة نرى الشابة الإسبانية التي رفضت أن تُكمل حفل تخرجها بكلية الحقوق بدون حضور والدها عامل النفايات، الذي يعمل في إحدى مراكز جمع النفايات في إسبانيا، والذي رفض أن يحضر معها خشية أن يضعها في حرج بمظهره الفقير أمام زميلاتها، وقال لها إنه لديه عمل ولا يستطيع الحضور، فقررت أن تترك حفل التخرج، وتذهب لمكان عمل والدها وسط القمامة والنفايات، وهي مرتدية ملابس تخرجها (الروب والكاب)، وقررت توثيق هذا اللقاء عبر فيديو بالبث المُباشر (لايف) على حسابها الشخصي بإنستجرام حتى يُشاهده كل أصدقائها، وحتى تقول للجميع، إن هذا الرجل هو أبي، هذا الرجل هو السبب في كل ما أنا فيه الآن، وفاجأت والدها الذي يظهر في الفيديو مُنهمكاً في جمع القمامة، بملابسه الممزقة، والذي بكى لحظة أن سمع صوتها خلفه، وكأنه يعلم أن ابنته لن تحتفل بتخرجها دونه.
ورغم ذلك قال لها باكياً: ماذا أتى بك إلى هنا؟، قالت باكية هي الأخرى: لا أستطيع أن أحتفل بتخرجي بدونك، فأنت السبب في كل ذلك، لم يتمالك الأب مشاعره من البكاء، والتقطت الفتاة مجموعة من الصور التذكارية بملابس التخرج مع والدها بملابسه الممزقة، فهذا العامل البسيط نجح في غرس الرضا والقناعة والثقة والوفاء والإخلاص والخُلق والقيم والامتنان في نفس ابنته، التي لم تخجل من عمله ولا ملابسه، وكلها فخر بهذا الأب الذي لولاه ما أصبحت محامية، في حين فشل غيره بملايينه وربما ملياراته في أن يغرس صفة واحدة من كل هذه الصفات في ابنه.
كلمة أخيرة للمُفكر الراحل أحمد أمين:
كان البيت أهم مدرسة تكونت فيها عناصر خُلقي وروحي، فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها، والجو الذي يعاكسها أو يُنميها، حتى تعيش عيشتها المقدرة لها وفًقا لنظام الكون وقوانينه.
التعليقات