لا أحد ينكر الآثار السلبية لجائحة كورونا على مستوى العالم، خاصة في القطاع الاقتصادي سواء على مستوى الأفراد أو الدول؛ كذلك آثارها في زيادة نسبة الوفيات على مستوى العالم بشكل لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من هذه الأوجه السلبية وغيرها لهذا الوباء العالمي إلا أن هناك العديد من الجوانب المضيئة لهذه الجائحة في الحياة على المستوى العالمي.
أولا: الرغبة في التعايش السلمي، فعلى مستوى العالم أدت هذه الجائحة إلى الرغبة في التعايش السلمي بين أصحاب الديانات المختلفة داخل المجتمعات الغربية؛ خاصة مع المسلمين في تلك المجتمعات، وهو على النقيض مما كان قبل كورنا حيث نشرت BBC خبرا في 23مايو/آزار2020م خبرا بعنوان: كنيسة ألمانية تستضيف صلاة الجمعة للمسلمين بسبب الوباء، وكان يحتوي الخبر في طياته أن كنيسة في العاصمة الألمانية برلين تفتح أبوابها للمصلين غير القادرين على الصلاة في مسجدهم، بموجب قواعد التباعد الاجتماعي المفروضة بسبب وباء كورونا، وأيضا أخبار عن رفع الآذان خارج المساجد في إسبانيا وبريطانيا وألمانيا، إضافة إلى التصريحات الإيجابية من جانب بعض القادة الغربيين عن العالم، هذه الأمور أشاعت روحا من التسامح بشكل جعلت العديد من المفكرين الغربيين وعموم الناس أيضا بالبحث عن الدين الإسلامي الصحيح والتعرف عنه عن قرب وهذا الأمر يصب في مسار تصحيح المفاهيم حول الإسلام وعلاقته بالإرهاب وهي التهمة الذي يعد منها الإسلام بريئا تماما؛ وهذ التصحيح يصب في النهاية بمصلحة الشعوب الإسلامية بشكل عام وأيضا في صالح الجاليات الإسلامية المتواجدة في الغرب.
ثانيا: زيادة الطلب على الاستخدام التكنولوجي على مستوى العالم؛ فتحول الناس من صراعهم النفسي تجاه استخدام التكنولوجيا من صراع الإقدام – الإحجام إلى صراع الإقدام- الإقدام؛ فأصبح الناس- في معظمهم- مجبرين على استخدام التكنولوجيا بشكل يومي، ففي مجالات العمل التي فرضت الإقامة المنزلية نفسها على موظفيها واستخدام المنصات الاجتماعية وأنظمة الهواتف والحواسب الذكية وسيلة للتواصل بينهم وبين موظفيها من ناحية، وبين موظفيها وعملائها من ناحية أخرى، فتطبيق (زوم )مثلا حمله أكثر من 131 مليون شخص حول العالم في شهر أبريل/ نيسان 2020م، بحسب شركة الأبحاث(سينشر تاور) وهذا أكثر من 60 مرة من نفس الفترة قبل العام، وأوضحت الشركة إلى أن الهند كانت وراء 18% من عمليات تحميل التطبيق، وتليها الولايات المتحدة بنسبة 14%، فكان استخدام تطبيق زوم خيارا مفضلا للاتصال بالنسبة للعديد من الشركات، وكذلك الأفراد من الجمهور العام.
حتى في الأمور الحياتية اضطر الأشخاص العاديون إلى استخدام التجارة الإلكترونية التي شهدت نموا بنسبة 20% في الربع الأول من 2020م، وارتفعت المشتريات الرقمية من البضائع الضرورية بنسبة 200%، فكل هذه المؤشرات توضح استخدام التكنولوجيا بشكل كبير في حياتهم بشكل لم يكن معهودا من قبل، في زمن كان استخدام التكنولوجيا بهذا الشكل ضربا من ضروب الرفاهية لدى البعض.
ثالثا: التحول في التعليم من افتراضية التعلم عن بعد إلى واقع معاش، فتحول التعلم عن بعد من دراسات نظرية متعددة وتطبيقات محدودة على أرض الواقع، إلى تطبيقات عملية متعددة والعمل على ربط نظريات التعلم عن بعد بالواقع في المدارس والجامعات المختلفة على مستوى العالم، مما ألزم الملايين من الطلاب أن يكونوا أكثر استخداما للإنترنت بشكل إيجابي عن ذي قبل، فاستطاعت العديد من الدول من تطبيق التعلم عن بعد لفترات قد امتدت في بعض الدول إلى عام دراسي كامل مثل دولة الإمارات العربية المتحدة التي استطاعت أن تطبق التعلم عن بعد لمدة تزيد عن عام دراسي كامل باستخدام أحدث التقنيات التكنولوجية، وهو ما شكل تطورا كبيرا في قدرات الطلاب وتنمية مهاراتهم التكنولوجية.
رابعا: الاهتمام بالبحث العلمي، فلم يجد العالم حلا للقضاء على جائحة كورونا سوى في العلم والبحث العلمي فبدأت المليارات تتدفق على المعامل العلمية في العديد من الدول لتوفير لقاحات لعلاج هذا المرض العنيد وعلى التجارب السريرية لهذه اللقاحات؛ فصدر هذا الأمر لواجهة المشهد أهمية العلم ودوره في تحقيق نجاح وتطور كبير لأي المجتمع ،في مقابل تراجعت جهات أخرى كان ينفق عبيها بالمليارات المضاعفة أكثر من المعامل العلمية مثل كرة القدم والصناعة الدراما، وقد يدفع هذا الأمر إلى توجهات دولية وإقليمية إلى زيادة المخصصات العلمية في السنوات القادمة.
خامسا: حملات التطهير والتعقيم التي شهدها العالم بلا استثناء من إنفاق ملايين الدولارات وملايين الأطنان من المطهرات بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية من أجل الحد من انتشار فيروس كورونا، فلم يسبق أن قام العالم بمثل هذا الأمر حتى في أعقاب الحرب العالمية الأولي أو الحرب العالمية الثانية أو حتى في ظل الأوبئة العالمية الفتاكة مثل الكوليرا أو الطاعون.
فلم يتوفر لدى غالبية دول العالم آنذاك الإمكانيات المادية التي تمكنه من اتباع حملات تطهير أو تعقيم مشابهة لما يستخدم حاليا، وهذه الحملات بلا شك ستعود بالنفع على البيئة وعلى سلوكيات الأفراد في تعاملهم مع بعضهم البعض أو في تعاملهم مع البيئة بشكل عام.
سادسا: التواصل الأسري الفعال الذي سمحت به جائحة كورونا وفرضت التقيد الأسري الإجباري على الجميع بشكل لم يكن متاحا لغالبية الأسر، فأصبح الأب والأم يعملان من المنزل، والأبناء يدرسون من داخل المنزل، ولم يكن هنالك مجال للتواصل الاجتماعي المباشر -وهي حاجة نفسية يحتاجها الإنسان لأنه مدني بطبعه- إلا الأسرة وهو أمر كان يعد في بدايات جائحة كورونا أمرا صعبا، لكن مع طيلة فترات الحجر المنزلي قد وجدت غالبية الأسر وسائل للتواصل بطريقة أو بأخرى بين جميع أفراد أسرتها.
سابعا: الراحة الإجبارية للبيئة؛ فعلى الرغم من أن الأشهر الأولى كانت أصعب أشهر الوباء وشهدت حظر للتجول على مستوى العالم تقريبا وتضييقا على الحركة البشرية للحد من انتشار العدوى إلا أنه كامن في هذا الأمر فائدة كبرى بلا شك على الطبيعة بشكل عام، فاستراحت الشواطئ والغابات والحدائق العامة؛ وبل وجميع المخلوقات من أيدي العابثين، وهو ما يعد من وجهة نظري بمثابة تجديد لشباب البيئة من حولنا وبالتالي يعود بالنفع بكل تأكيد على الصحة العامة للبشرية في المستقبل القريب.
أصبحت كورونا (كوفيد-19) علامة فارقة في التاريخ البشري على مستوى الدول والأفراد، وسواء انتهت هذه الجائحة قريبا أو امتدت لسنوات إلا أن آثارها وتداعياتها ستظل متواجدة بالعالم لسنوات عدة بعد اختفائها، إن لم يبق أثرها متواجدا في فكر وسلوك من عاصروها طوال حياتهم.
التعليقات