لا شك بأن التعليم في الوقت الحاضر يختلف كل الاختلاف عن التعليم من عام مضى، فأصبحت التكنولوجيا هي حجر الزاوية في نجاح أي نظام تعليم داخل أي مجتمع من المجتمعات، بل أصبح التعلم الرقمي يكاد يكون هو البديل الوحيد للتعليم المدرسي، أو فيما يمكن أن نسميه التعلم الواقعي بالمدارس، فلم يعد بإمكان أي دولة أن تتجاهل التعلم الرقمي في برامجها التعليمية نظرا لطول فترات الغياب عن المدارس ففي ظل الوضع الرهن، وفي ظل عدم وجود سقف تؤول إليه نهاية الأزمة المعاصرة التي تجتاح العالم منذ ظهور فيرس كوفيد-19 (كورونا) في أواخر عام 2019م، وحتى بعد زوال هذا الخطر الداهم عن العالم- إن شاء الله قريبا- لن يعود التعليم في العالم أجمع إلى سابق عهده فيما قبل كرونا، وبخاصة في المجتمعات التي تطلع إلى ريادة المجتمعات البشرية في العصور القادمة، لتظل أزمة كورونا تلقي بظلالها على أنظمة التعليم لعدة عقود قادمة.
وبالنظر على التعلم الرقم لم يكن وليد الصدفة، أو كانت نشأته منذ عدة سنوات بل إنه كان وليد سنوات من العمل المضني من قبل العديد من العلماء؛ فيذكر (مايكل سبيكتور) في كتابه (التعليم والتعلم في العصر الرقمي)2010م أن " فجر العصر الرقمي يعود إلى عام 1623م عندما قام فليلهام شيكارد باختراع الآلة الحسابة الرقمية بجمع وطرح ما يصل إلى ستة أرقام ويمكن تأريخ اختراع مهم آخر عام 1679م عندما قام جوتفريد فيلهلهم ليبنيز بتطوير نظام الرقم الثنائي، الذي عد أساسا في معالجة البيانات والمعلومات الإلكترونية الحديثة، ومع اختراع الآلة التحليلية لتشارلز باباج عام 1832م جاءت الفكرة الأساسية للحوسبة التي يتحكم فيها البرنامج وفي عام 1945م تم وضع كمبيوتر للأغراض العامة، وفي السنوات الأخيرة التي تلت ذلك، تم تطوير الحواسيب الصغيرة بشكل أكبر الصوت والألوان والأجهزة الطرفية وأجهزة الإدخال وواجهة المستخدم الرسومية، وبدءا من أواخر الستينات في القرن العشرين ظهر الإنترنت كشبكة تجريبية في الولايات المتحدة ثم أصبح الإنترنت سريعا يربط ملايين أجهزة الكمبيوتر بالعالم" ناهيك عن الأجهزة اللوحية الحديثة وأجهزة الهاتف وآخر تحديثاتها في جيلها الخامس جعل كل هذا من العصر الرقمي ينموا نموا سريعا وقويا ومتلاحقا في آن واحد.
كل هذه الأمور في العصر الرقمي كان لها عظيم الأثر على التعليم فمنذ دخول هذه الأجهزة ميدان الحياة العامة أصبح لها دورها البارز في المدارس، والجامعات، والمعامل العلمية، بل وفي الاكتشافات داخل محيط الكرة الأرضية أو خارجها في الفضاء الخارجي، فأصبح التعليم -خاصة في الدول المتقدمة- يعتمد على تكنولوجيا العصر الرقمي، فطورت التكنولوجيا من التعليم وطور التعليم من التكنولوجيا بشكل أصبح العصر الذي نعيشه بحق عصرا رقميا بامتياز، فأصبحت الدراسات التي كانت تعد سابقا حول الجامعات والمدارس الافتراضية أصبحت واقعا ملموسا في جميع دول العالم-تقريبا- في ظل جائحة كورونا، بل أصبح التعليم الافتراضي هو البديل الآمن للتعليم التقليدي بالمدارس، وهذه الجائحة جعلت من معامل العالم المتقدم تبحث في فرضيات أخرى ماذا لو طالت فترات الحظر؟ ماذا لو أن هناك جائحة أخرى أشد وأصعب من التي يمر بها العالم الآن؟ كيف ستكون المواجهة في كل المجالات؟ وبخاصة في مجال التعليم؟!
هذا الأمر يدفعنا إلى تصور مستقبل للتعليم والتعلم الرقمي في ظل هذا العالم المتغير علميا وفكريا وثقافيا؟ أين سيصل بنا العصر الرقمي في تطوره؟ وما تبعات هذا التطور في مجال التعليم خاصة؟
أعتقد بأن التعليم لن يقف عند الحد الذي وصل إليه في العصر الحالي-على الرغم من تقدمه- بل سيمتد إلى آفاق أوسع تعتمد على تقنيات أحدث فلن يقف الحد التفاعلي إلى مجرد عرض للكتب في نسختها الإلكترونية (المسماة بي دي إف)، أو مجرد عرض فيديوهات حول المادة التعليمية؛ بل أظن أن قريبا سيكون الكتب كتب تفاعلية، أشبه إلى حد كبير المجلات التي كان يستخدمها السحرة في سلسلة أفلام هاري بوتر الشهيرة التي يكون محتواها تفاعلي حركي، وليس نصا فقط.
فيمكن أن نصل إلى الحد الذي نرى فيه على سبيل المثال إجراء التجارب العلمية من الطالب بشكل آلي بين دفتي الكتاب بطريقة ما، وليس مجرد رابط لمشاهدة الفيديو على الانترنت، أيضا يمكن أن نرى الخطوات العملية آليا لحل المسائل الحسابية بل وتصحيحا ذاتيا للطالب.
كما أن المدارس والجامعات الافتراضية سينالها التطور لا شك في ذلك، فلن تبقى كما هي مجرد أجهزة امام المعلم وطلابه في أماكن مختلفة، بل سيكون الفصل يعتمد على وجود الجميع في حيز افتراضي واحد كأنهم داخل صف واحد وأمامهم المعلم بتطوير استخدام تقنية الهولوجرام في ميدان التعليم.
والهولوجرام Hologram أو ما يعرف بالصورة المجسمة، هو تقنيةٌ تصويريةٌ تقوم بتسجيل الضوء المنبعث من جسمٍ ما، ومن ثم عرضه بطريقةٍ تظهر أبعاده الثلاثة، وكثيرًا ما ظهرت هذه التقنية في الأفلام مثل Star Wars وIron Man، ولكن في الحقيقة إن هذه التقنية لم تصل بعد للمستوى الساحر الذي يعرض في مثل هذه الأفلام.
فيمكن أن نري في المستقبل القريب نسخة ضوئية-إن جاز التعبير- من الطلاب في مقاعدهم أمام المعلم داخل صفه، ونسخة أخرى من المعلم أمام كل تلميذ وهو في مكانه، بشكل يضمن التفاعل بشكل أكبر من الطلاب كأنهم داخل الصف وبشكل يحقق رقابة أعلى من المعلم لطلابه أثناء الحصص.
في حينها لن نستغرب إن وجدنا طابور افتراضي للطلاب داخل المدرسة، بل وممارسة للأنشطة منهم داخل المجتمع المدرسي.
قد يرى البعض أن هذا الأمر بعيد المنال، لكنه ليس مستحيلا فكثير من مستحيلات الأمس أصبح واقعا معاشا، فالإنترنت والهواتف الذكية التي كانت ضربا من الخيال أصبحت واقعا وهي التي أحدثت نقلة نوعية في التعليم في هذا العصر، والعلم والتعليم في العصر الرقمي هو الذي سوف يحدث نقلة نوعية أخرى أسرع وأقوى من التي حدثت في هذا العصر الحالي.
وعلى الرغم من الجانب الإيجابي للتطور العلمي والمعرفي للتعليم في العصر الرقمي، وتوقعنا لحدوث تطورت أعلى مما سبق، كما أسلفنا ذكره؛ إلا أن هناك جانبا سلبيا في خضم هذا التطور، ألا وهو عدم قدرة العديد من المجتمعات الفقيرة والناشئة -خاصة في دول العالم الثالث- عن ملاحقة هذا التطور داخل أنظمتها التعليمية أو حتى استخدامها للتكنولوجيا التي سوف تنتج من المجتمعات المتطورة، نظرا لضعف بنيتها التعليمية وقلة الإمكانات الاقتصادية ومن ثم قد نجد تلاشيا لبعض هذه المجتمعات على حد يصل إلى الاندثار أو زوال أعراق بعينها.
إن التغير القادم في عصر ما بعد العصر الرقمي أشبه بالتحول الذي حدث في عصور الانقراض؛ فالكائنات التي تمكنت من التكيف وتطوير ذاتها استطاعت الحياة في العصور التالية، بينما الكائنات الأخرى -مثل الديناصورات- التي لم تستطع التأقلم أو التكيف مع تطورات الحياة، كان الانقراض مصرعها، وأصبحت تاريخا بعد حياة.
ومن هنا وجب علينا كمجتمعات عربية أن نسرع في تطوير تعليمنا بشكل يتوافق مع التطورات القادمة في مجال التعليم، بشكل يمكن أجيالنا القادمة في ميادين التعليم أن تكون منتجة للتكنولوجيا وليست مجرد مستهلكة لها فقط، بما يضمن لنا مكانا داحل المجتمعات المتقدمة ويضع لنا قدما في ركاب التقدم الحضاري القادم.
التعليقات