أحدثت رحلة أحمد حسنين دوى عالمياً، فقامت المجلة الجغرافية الدولية المعروفة بنشر تفاصيل رحلته في عددها الصادر في شهر سبتمبر 1924، حيث أفردت لرحلته 45 صفحة، مدعومة بـ45 صورة التقطها حسنين، خلال رحلته مع خريطة تفصيلية، ومقدمة من رئيس التحرير، يشيد فيها بإنجازه التاريخي، وسأسرد تفاصيل رد الفعل العالمي في نهاية حلقات هذه الرحلة، كما ذكرت قام أحمد حسنين بالإعداد المحكم لهذه الرحلات مسبقاً، فاستأذن سادة ومشايخ القبائل ذات الصيت بهذه الصحاري، ونسق معهم، ونال مباركتهم وتشجيعهم.
قرر أحمد حسنين باشا تنفيذ رحله متكاملة الجوانب، فكل قصور حدث في الرحلة الأولى، التي كانت في النصف الثاني من عام 1920، والتي بلغ فيها واحة الكفرة بليبيا في يناير عام 1921 - عمل على تلافيه في رحلته الثانية، خاصة ما يخص الأجهزة العلمية، والتي تساعده على توقع الأحداث بدقة، واستعان بالخرائط التفصيلية، وبدأ الإعداد والتجهيز لرحلة ستتعدى الأشهر السبعة، وسط الصحاري، وذلك بعد حصوله على إجازة الديوان الملكي بموافقة الملك فؤاد، مع التمويل الكامل للرحلة، فجهز الخيام والماء وآلات التصوير والعقاقير والحقائب والأسلحة والذخائر والأجهزة العلمية والهدايا، وحين وصل السلوم استكمل ما كان ينقصه من مواد تعينه على رحلته.
كانت خطه تحرك قافلة أحمد حسنين، تشمل الاتجاه إلى واحة جغبوب جنوب غرب السلوم، والتي كانت ضمن الأراضي المصرية في ذلك الوقت، ثم إلى واحة جالو غرباً داخل الأراضي الليبية جنوب بنغازي، وهي مركز لتجارة الصحراء وتجهيز الرحلات طويلة المدى بكل الإمكانات المطلوبة، ثم الانطلاق إلى واحات الكفرة والتي زارها في رحلته الأولى منذ عامين، وهي أقصى جنوب الصحارى الليبية، ثم الخوض في غمار الفيافي المجهولة، التي لم تطأها قدم مكتشف من قبل.
لكن كان للقدر رأي آخر، فقد بدأت مخاطر المغامرة في الاشتعال من قاعدة الانطلاق أثناء وجوده في السلوم. فقبل التحرك بيومين كان جالسا منتصف الليل بمفرده في الاستراحة الحكومية يفحص الأجهزة العلمية، وإذا بطارق يطرق على بابه، وعندما فتح الباب وجد بدويا لا يعرفه، يقول له وقد بدا عليه الارتباك، ألا يذهب إلى جالو، لأن الأعراب مقتنعون أنه ثري جداً، وأن قافلته تحمل صناديق مملوءة بالذهب، فاتفقوا مع قائدي إبل قافلته على نصب كمين له، ونهب القافلة وقتل أحمد حسنين.
وما دفع رحالتنا للاطمئنان لما جاء على لسان البدوي، أنه قد قدم له خدمة جليلة منذ زمن، وصباح اليوم التالي تحرك بسرعة فقام بالاستغناء عن جميع قائدي الإبل، الذين اختارهم خلال إقامته بالسلوم، واختار غيرهم، مع تغيير خط سير القافلة للتحرك جنوباً إلى واحة سيوة -320 كيلومتراً جنوب السلوم - كما اختار رجلاً من السلوم يدعى حمد؛ لينضم إلى رفاقه المقربين عبدالله وأحمد، وكان حمد من أشد الرجال إقبالاً على العمل، وأصبرهم كما كان شغوفاً بالإبل، خبيراً بأحوالها، فكلفه أحمد حسنين بهذه المسؤولية، وسيوة واحة معزولة خلابة مليئة بالزراعات، وتقع في منخفض يبلغ 17متراً تحت سطح البحر، ومساحتها ألف كيلومتر مربع، يشاركها في المنخفض نفسه واحة جغبوب غرباً داخل الأراضي الليبية، وينتمي أهلها إلى قبائل البربر الأمازيغ، وهي التي توج فيها الإسكندر الأكبر ملكاً على مصر، ونال لقب ابن أمون، والتي ظل الوصول لها بالغ الصعوبة، واحتمالات الفقد وإضلال الطريق واردة بقوه، وعام 1980، أي بعد 57 سنة، من زيارة أحمد حسنين لهذه الواحة تم رصف طريق إسفلتي بينها وبين مدينه مطروح، والتي كانت في التاريخ القديم ميناء بحرياً لسيوه.
كان لقرار أحمد حسنين تعديل مسار طريق الرحلة، الأثر المباشر في زيادة عدد الأيام، التي يحتاجها للوصول إلى واحة جغبوب.
تحركت القافلة من السلوم أول يناير 1923، وقد عمد حسنين باشا إلى إخفاء الصناديق التي تحتوي أشياء ثمينة، وأظهر فقط أثاث البدوي العادي، وبعد ستة أيام بلغت القافلة سيوه، حيث قضت ثلاثة أيام، وسجل حسنين مشاهداته بالواحة وبعضاً من العادات والتقاليد، التي كان يتبعها أهلها، وكانت غريبة جداً، ومن هذه العادات على سبيل المثال، المرأة التي تفقد زوجها؛ تُمسك عن الاستحمام أربعين يوماً، وتحتجب عن الأنظار، ويقدم لها الطعام من فتحه صغيره في الباب. وبعد أربعين يوماً تتوجه لأحد عيون المياه العذبة، حتى تستحم ويتجنبها الناس في ذلك اليوم، وتلقب بـ"الغولة" لاعتقاد أهل سيوه أنها تجلب النحس لكل من يقع نظره عليها في ذلك اليوم.
ومن ضمن ما سجله حسنين باشا وجود مقام بسيوه لأحد الأولياء، فإذا قرر أحد سكان الواحة السفر، يترك متاع السفر بجوار المقام، فلا تمتد إليه يد إنسان، ولا يفكر أحد في التعدي على الأشياء المودعة عند هذا المقام، مهما كان ثمنها غالياً؛ لاعتقاد الجميع أن من يفعل ذلك يُبتلى بالنحس، وسوء الطالع مدى حياته، كما شاهد وصور حصن شالي- والذي مازالت أطلاله موجودة، ويعود هذا الحصن إلى القرن الثالث عشر، ويتألف من سلسلة من الأكواخ، التي بنيت من حجارة الطين؛ لحماية سكان سيوه من غزاة الصحراء.
والآن لم يعد هذا الحصن المهجور سوى صرح مرتفع يضم العديد من الغرف والممرات- وأثناء وجوده في سيوه استأجر إبلاً إضافية، واختار رجلاً من أهالي الواحة، ليكون الرابع في المجموعة المقربة من أحمد حسنين. ثم غادروا سيوه لتبدأ المرحلة الثانية من رحلته، والتي ينقطع فيها اتصاله عن العالم الخارجي تماماً، فلا خدمات بريدية، ولا شيء يباع إلا القليل من الأرز والقماش وبسعر غالٍ جدا.
وفي هذه المرحلة استبدل حسنين ملابسه بالزي البدوي المناسب لمناخ الصحراء، وهو الذي اشتهر به في الصور الوثائقية المرتبطة بهذه الرحلة، وكان لارتدائه هذا الزي وقع السحر على رجال القافلة، والذين تقدموا منه وشدوا على يديه، وأعلنوا أنه من الآن صار منهم، وتحركوا غرباً صوب واحة جغبوب، والتي كانت ضمن الأراضي المصرية في ذلك الوقت، وعندما بلغوا مشارفها، بدأ أفراد قافلته في إطلاق الرصاص من بنادقهم في الهواء، احتراماً لعادة أهل الصحراء؛ بإعلان اقتراب قافلة، فدخلها وأقام فيها خمسه أسابيع؛ ليستعد للمرحلة الثالثة، حيث وجهته المقبلة وهي واحة جالو، والتي تبعد مسافة 350 كيلومتراً غرب جغبوب داخل الأراضي الليبية.
التعليقات