يستهوي البعض رؤية التشكيل الفني الذي تجسده العواصف البرقية والتي يجد فيها البعض مشهداً مليئاً بالروحانية والتفكر والتأمل في قدرة الله عز وجل، بينما تمثل للبعض الآخر مصدراً للرعب والخوف.
وتشبه التكوينات الفنية التي تنتج عن البرق بالشرايين الدقيقة التي تخرج من بطن السماء، أو أغصان الأشجار، لكنها لا تحمل ثمراً أو عبيراً فواحاً وخيراً مثل الأشجار بل عادة ما تكون محملة بشحنة كهربائية هائلة قد تبلغ 500 مليون فولت قد تدمر من يقف أمامها.
وقد تداعى إلى الذاكرة شريط ذكريات مر عليه أكثر من خمسين عاماً عندما عايشت هذه الأعاصير المميتة في حرب اليمن، لكن قبل أن أسترسل في هذه الحكايات أود أن أتحدث بشيء من الإيجاز عن هذه النوعية من الظواهر الطبيعية.
وتعتبر العاصفة البرقية من الظواهر الطبيعية الفتاكة القاتلة، إذا ضربت كائناً حياً، ومدمرة إذا ضربت جماداً، وتحدث هذه الظاهرة نتيجة تفريغ كهربائي ناتج من احتكاك سحب كثيفة ببعضها البعض أو بتضاريس مرتفعة مثل الجبال، الأمر الذي ينتج عنه صاعقة ذات وميض خاطف، محدثة صوت انفجار هائلاً، ينتج حرارة تبلغ قوتها خمسة أضعاف حرارة كوكب الشمس، وتكون العاصفة أسرع من الصوت، ومنها ما يأخذ شكل نافورة معكوسة، قاعدتها وسط السحب وأفرعها تضرب الأرض محدثه أضراراً هائلة.
ونحمد الله أن تواجد الظاهرة هذه محدود حتى الآن في سماء مصر، لكن من المتوقع تزايدها خلال القرن الحالي نتيجة التغيرات المناخية والتي بدأت تضرب وبعنفذ القاره الإفريقية، وبناء على أحدث دراسة أجرتها وكالة ناسا لعلوم الفضاء والهيئة الأمريكية لمتابعة التقلبات المناخية ثبت أن أكبر تركيز صواعق برقية على وجه الكره الأرضية يتمركز أعلى بحيرة ماراكايبو في فنزويلا، وهي أكبر بحيرات أمريكا الجنوبية، حيث ثبت أن كل كيلومتر مربع في هذا القطاع تضربه 233 صاعقة برقيه في العام، يليها في التركيز الكونغو، مع الإشارة إلى أن القاره الأفريقية هي الأكثر على مستوى العالم أجمع في تلقي الصواعق البرقية كما أعلنوا أن عدد الصواعق التي تضرب الولايات المتحدة كل عام تبلغ 25 مليوناً، والمعروف أن الصواعق تضرب المواقع نفسها بصفة شبه مستمرة لا سيما لو كانت هذا الأماكن مرتفعة مثل الجبال والأبراج السكنية، فعلى سبيل المثال تتعرض بناية الإمبيرستيت في نيويورك لأكثر من مائة ضربة صاعقة برقية في العام.
وتقتل الصواعق سنوياً نحو خمسين شخصاً في الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها، ممن تواجدوا في العراء، بالإضافة إلى إصابة المئات بالحروق الخطيرة.
ويحذر الاختصاصيون من الوقوف في الأماكن المكشوفة أثناء الصواعق الرعدية وكذلك استخدام الهاتف المحمول، مشيرين إلى أنه يحتوي على هوائي صغير جيد التوصيل للكهرباء، ومن غير المستبعد أن يتم تفريغ الصاعقة الكهربائية من خلاله عبر جسم الإنسان الذي يحمله، لا سيما إذا كان الجهاز مرفوعاً باليد قرب الرأس.
وقد تمر الصواعق عبر جسم أي انسان لا سيما إذا كان مبتلاً وواقفاً في أماكن مكشوفة أثناء الصواعق الرعدية، وفي حالة حدوث الصواعق ينصح بعدم الاحتماء تحت الشجر أو الإمساك بأجسام معدنية موصلة للكهرباء مثل المظلات المعدنية في هذه الظروف.
وتمر الغيوم عبر مناطق جافة بسرعة عالية بسبب الرياح وبالتالي تكتسب شحنات وتصبح أجساماً مشحونة تمشي فوق الأرض وعند اقترابها من الأرض يحدث لها تفريغ للشحنات، وعند مرورها من أجسام أو سيارة أو حتى عمارة عالية تحدث صوتاً عالياً، وبالتالي على الإنسان أن يبتعد عن أن يكون ممراً لتفريغ هذه الشحنات.
وما دعاني إلى كتابة مقال عن الصواعق الرعدية هو سيل الأسئلة التي تلقيتها بعد أن نشرت صحف مصرية مؤخراً، خبراً على صدر صفحاتها بعنوان "الرعد القاتل يفتك بأسره يمنية في محافظة صنعاء".
وبعد هذه الحادثة بقليل تصدر عدد من الصحف الأوروبية خبر يتضمن صوراً صادمة لـ 323 وعلاً برياً نافقاً ملتصقاً في منطقة جبلية وسط النرويج، وقد أعلن حراس المحمية أن الجاني صاعقة برقية نتجت عن إعصار مميت.
وقد سجلت أجهزة الأرصاد أكثر من مائة صاعقة ضربت هذا القطاع خلال الإعصار وأنه من عادة الوعول البرية الالتصاق ببعض أثناء التقلبات الجوية القاسية، الأمر الذي تسبب في نفوق هذا العدد نتيجة انتقال الشحنة الكهربائية الهائلة بينها بسرعة رهيبة فقتلهم في ثوان، وقد أعلن المسؤولون أن موت هذا العدد لم يحدث من قبل في تاريخ النرويج.
وقد أعاد لي هذان الخبران شريط ذكريات مر عليها خمسون عاماً أثناء حرب اليمن والتي شاركت فيها بين عامي ١٩٦٥و وهناك ١٩٦٦شاهدت ظواهر طبيعية مذهلة لم أشاهد مثلها إلا في أفلام هوليوود.
وتبدأ الحكاية في شهر أغسطس ١٩٦٥، عندما كنت اعتلي وجنودي سفح جبل، الأمر الذي يسمح لي برؤية أي تحركات معادية وكانت التقلبات الجوية بالغة العنف، وفي أحد الأيام شهدنا هطولاً غزيراً لأمطار مصحوبة بعاصفة كادت تقتلع خيامنا، وبشكل مفاجئ توقفت الأمطار والعاصفة فخرجت من خيمتي لتقع عيناي على خيمة في موقع مجاور لتمركزي محترقة تماماً، وقد أخذ الجنود في نقل جثتين متفحمتين ومتحجرتين إلى سيارة الإسعاف، وكان واضحاً أن أحدهما كان في وضعية النائم بينما كان الثاني في وضع الجلوس.
وعندما سألت عن سبب وفاتهما عرفت أنهما ماتا نتيجة عاصفة رعدية، فأثناء هطول الأمطار الغزيرة كانت شحنات الصواعق والبرق تضرب الأرض بسرعة خاطفة، الأمر الذي سبب نشوب حرائق في الأشجار وتحطم الصخور التي تضربها محدثه أصواتاً رهيبة تصم السمع، حتى ضربت الخيمة فقتلت وحنطت الجنديين في لمح البصر.
وبعد عشرة أيام من هذا الحادث، كنت في زيارة موقع على مسافة كيلومترات عدة يقع على جبل يرتفع كيلومتراً، وبعد رحلة شاقة تغلبت وزملائي على تضاريس صخرية وعرة وبلغت الموقع المحدد وبعد إتمام المهمة التي كلفت بها قررت الاستمتاع بمشاهدة الطبيعة من جبال وأشجار غريبة ذات سيقان متكورة وسميكة وفي الوقت نفسه ملساء، بينما كانت أغصانها قصيرة تشكل تاجاً أخضر صغيراً، كما كان تنوع الطيور الذي تزخر به هذه المنطقة رائعاً بألوانه الزاهية، وأشكاله الجميلة.
كنت أقف إلى جوار الحافة الصخرية للجبل ومعي أربعة من جنودي نتبادل الحديث وفجأة أظلمت السماء وهطلت أمطار وهبت رياح قوية ورغم كل هذا قررنا البقاء في موقعنا بالعراء نتيجة الحرارة الشديدة، لكن ما حدث لن أنساه فقد هبطت شحنة صاعقة بضوئها الخاطف محدثه انفجاراً كاد يصيبني بالصمم لتضرب صخرة على بعد خمسة أمتار من مكان وقوفي فتشقها نصفين بشكل مستقيم وكأنها سكين يقطع قطعة زبد، وأخذت الأدخنة السوداء في التصاعد من الشق، ومن قوة الانفجار الصاعق ارتطم الجنود الأربعة بالأرض بعنف نتيجة أنهم كانوا الأقرب لموقع الصاعقة بينما أصبت بصداع مؤلم للغاية مع صفير مستمر في أذني.
هنا بدأ جسدي يرتجف من الخوف فأسرعت بدخول مغارة في الموقع لأستلقي على الأرض وأنام نحو ثلاث ساعات لأعود بعدها لطبيعتي ووقفت على مدخل المغارة لأراقب الأمطار والصواعق وهي تضرب الأشجار فتفلقها لنصفين وتشتعل فيها النيران وكان المنظر رهيباً حُفر في ذاكرتي للأبد.
محمود القيسوني
(الخبير الدولي - السياحة البيئية)
التعليقات