أحمد حسنين باشا ورحلته التاريخية

في هذه الحلقات سنقوم بسرد رحلة من أعظم الرحلات، التي قام بها المستكشفون إلى الصحراء المصرية العظيمة، من أجل اكتشاف أسرارها، متحدثين عن مستكشف مصري هو الأبرز والأعظم إنه أحمد حسنين باشا.

بداية جذبت الصحراء المصرية الكثير من المستكشفين والباحثين عن كنوزها الدفينة، فقد شدت الألوف من القوافل المختلفة من سياحية وبيئية، وعلماء آثار، وعلماء جيولوجيا، وعلماء الفضاء والمؤرخين- الرحال إلى عمق الصحراء المصرية، من أجل زيارة كهوف إنسان العصر الحجري، الثرية بالحفريات، والرسومات الملونة، حيث التضاريس والمغارات ذات الظواهر الطبيعية الخلابة، والمليئة بالمعادن النادرة جداً، والتي لا مثيل لها في العالم أجمع، والفوهات البركانية الخامدة والفوهات المشكلة من ارتطام مذنبات عملاقه منذ ملايين السنين، والقبائل ذات العادات والتقاليد القديمة، والتي تتحدث لغات نادرة، ووجود النباتات الصحراوية، والتي ستكون من أساسيات مقاومة خطر التصحر ومواجهة خطر فقد الثروة المائية، حيث ظهرت هذه الأيام أبحاث مذهلة في دول متقدمة اعتمدت اعتماداً كاملاً على النباتات الصحراوية المصرية، والتي تم أخذ عينات منها خلال الأعوام الماضية، وكل هذا هو الظاهر على سطح رمال الصحاري المصرية الذهبية، أما ما هو أسفلها وفي أعماقها؛ فهو ما يجذب علماء الجيولوجيا والفضاء المنكبين منذ ثماني سنوات على دراسة خزان النوبة العظيم أسفل صحراء مصر الغربية بواحة الفرافرة وواحة البحرية، وعمل مقارنات علمية بالأبحاث الجارية على سطح كوكب المريخ أو الكوكب الأحمر للوصول إلى الحلول العلمية، التي ستنقذ سكان الكرة الأرضية من خطر الفقر المائي المتوقع هذا القرن. أيضاً هناك الحفريات الهائلة التنوع والمنتشرة بصحاري مصر الثلاثة منذ ملايين السنين، وأشهرها ما أكتشف بجبل قطران شمال محافظة الفيوم – شمال غرب القاهرة بـ100 كيلومتر -  وبوادي الحيتان –  والذي يقع داخل محمية وادي الريان، والتي تغطي مساحة 1759 كيلومتراً بمحافظة الفيوم - وشمال واحة البحرية. كل هذا ما كان سيتحقق دون جهد وجسارة عدد من المغامرين، والذين خاطروا بحياتهم في سبيل رسم وتوقيع وتسجيل تضاريس صحاري مصر على خرائط دقيقه بإمكانات بدائية، لو قورنت بالتطورات العلمية المذهلة الحادثة في أيامنا هذه فهم ساروا على أرجلهم أو بالاعتماد على الإبل والخيول وببوصلات بدائية أو بقراءة النجوم واتجاهات الشمس وقيود هائلة على الماء والغذاء، بالإضافة لمخاطر هجمات القبائل النائية، والتي كانت تعتبرهم غنيمة سهلة مستباحة يستولون على كافة ما معهم، وأحياناً يصل الأمر لقتلهم، وأيضاً مخاطر التقلبات المناخية القاسية جداً مثل العواصف الرملية والسيول المفاجأة والرمال المتحركة. اليوم بفضل هؤلاء المغامرين وتفاصيل المعلومات الدقيقة، التي سجلوها بالكلمة وبالرسم عن القبائل والمعادن والنباتات والحيوانات والحشرات ومصادر المياه والوديان والجبال والمغارات والكهوف والآثار، نتحرك وسط تيه الصحراء دون أي خوف لوفرة الخرائط التفصيلية الدقيقة، والتي تحقق نجاح جميع هذه الرحلات وتحمينا من مخاطر التوهان. ويشرفني أن أسجل سيرة أعظم المستكشفين الصحراويين، والذي سمحت له الصحراء باكتشافها، والاطلاع على أسرارها، حيث دخلها بحذر وخوف وحب، وطرق أبوابها بكل الاحترام، ولم يدخلها بغطرسة وثقة وقوة، كما حدث من جيش قمبيز، الذي كان تعداده 50 ألف مقاتل بكامل تجهيزاتهم منذ 2500عام، فدفنتهم الصحراء تحت رمالها؛ ليختفوا حتى يومنا هذا  بصحراء مصر الغربية، إنه المستكشف أحمد محمد حسنين باشا، الذي حقق أعظم إنجاز، بل حقق المستحيل وشرف مصر والمصريين في جميع المحافل الدولية، وواجب قبل سرد تفاصيل رحلته التاريخية، أن أكتب صفحات عن حياة وشخصية هذا الرجل العظيم، والذي يواجه حملة شرسة تعمل على تشويه صورته والتقليل من إنجازاته في السنوات الأخيرة.

ولد عام 1889، كان والده، محمد أحمد حسنين، من شيوخ الأزهر الأجلاء وكبار علمائه، وحفيد الأميرلاي (الفريق) البحري أحمد حسنين، قائد الأسطول المصري أيام الخديوي توفيق، والذي رفض تسليم الأسطول للقوات البريطانية بمالطة، وماطلهم لفترة طويلة، فذاع سيطه ليصبح من أشهر رجال البحرية المصرية، فبعد أن جاب بالأسطول البحر المتوسط واضطر للرسو، قال للبريطانيين، قولته الشهير «ما فيش مالطة». وقد عين ناظراً (وزير) للحربية والبحرية.

درس أحمد حسنين بمدارس القاهرة بالمدرسة الخديوية الثانوية، وكان مولعا بلعبتي السيف والملاكمة، وانضم إلى نادي السلاح المصري بحديقة الأزبكية ليصقله المدرب الفرنسي، الذي أدخل رياضة الشيش مصر، وحاز على بطولة مصر عام 1910 ثم سافر إلى بريطانيا، حيث درس بجامعة أوكسفورد العريقة، وفاز ببطولة جامعة أوكسفورد في الشيش عام 1913، وتفوق في دراسته وتخرج عام 1914.

عاد للقاهرة ليتدرج في عدة مناصب رفيعة المستوى، منها شغله منصب أول مفتش مصري في وزاره الداخلية، بعد أن كانت هذه الوظيفة حكراً على البريطانيين، وكان ذلك عام 1918، ومثل مصر في رياضة الشيش في أولمبياد عام 1920– ثم قام برحلته الصحراوية الأولى لواحة الكفرة بليبيا عام 1920، وبعد نحو عامين قام برحلته الثانية التاريخية أول عام 1923؛ ليكون أول إنسان يعبر بحر الرمال الأعظم في التاريخ وينفذ رحلة طولها3500 كيلومتر من السلوم شمالاً حتى الأبيض عاصمة مديريه كردفان بالسودان جنوباً، خلالها اكتشف واحة أركينو وواحة العوينات، رحلة استغرقت 8 أشهر كاملة على الإبل وسيراً على الأقدام وأحياناً على جواده، رسم خلالها أول خريطة تفصيلية دقيقة عن هذا القطاع الصحراوي، والذي كان مجهولاً للعالم حتى نجاح رحلته هذه. وقد سجلت هذه الرحلة في جميع المحافل والمؤسسات الجغرافية في العالم كأول رحلة توقع تضاريسها بالكامل بدقة متناهية، بواسطة أجهزة علمية، اعتمد عليها حسنين فصحح معلومات الرحالة الألماني رولفس عن واحة الكفرة بليبيا، وثبت أنها تبعد 40 كيلومتراً للجنوب الشرقي، كما كانت للعينات الصخرية والحجرية التي جمعها خلال الرحلة، الأثر في تغطية كل الجوانب الجيولوجية عن هذا القطاع المجهول للعالم، ومنحته الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية أرفع أوسمتها؛ ليكون أصغر مستكشف ينالها، وعن رحلة واحدة كما تم منحه أوسمة مماثلة في احتفالات مهيبة بالولايات المتحدة الأمريكية وبفرنسا وإيطاليا؛ ليكون أول مستكشف مصري يعترف به العالم أجمع. بعد هذه الرحلة عين سكرتيراً أول للمفوضية المصرية بواشنطن نهاية 1923، وكان له الشرف أن يكون أول من يرفع العالم المصري بيده على دار المفوضية الحديثة على أرض الولايات المتحدة الأمريكية، وقد سمح له الملك فؤاد بالسفر إلى أوروبا كل حين وآخر؛ لإلقاء محاضرات عن رحلته، تلبية للعديد من الدعوات من شخصيات لها وزنها ومؤسسات علمية واجتماعية. وعاد من أوروبا لمصر مع الزعيم سعد زغلول عام 1924، وكلف بالقيام بالمفاوضات بين مصر وإيطاليا بشأن الحدود الغربية. ثم حاول قياده طائرة بمفرده من أوروبا إلى مصر لأول مرة في التاريخ، لكن الملك فؤاد أمره بقطع هذه المحاولة، والعودة لمصر لتولي مهام جسام عام 1925، فعين أميناً أول للمك فؤاد، واستمر خمسة عشر عاماً في هذا المنصب. حيث تولى مهمة متابعة صقل ونشأة الأمير فاروق ولي العهد، ثم أصبح المستشار الشخصي للملك فاروق بعد وفاة الملك فؤاد نهاية شهر أبريل من عام 1936، وتنصيب فاروق ملكاً لمصر والسودان، ثم صدر مرسوم ملكي بتكليفه تولي رئاسة الديوان الملكي أواخر شهر يوليو من عام1940، وهو ما نال استحسان جميع رجالات الدولة والأحزاب. مواكبةً لهذا المرسوم الملكي كان لزاماً نشر صور رسمية له، وكانت رتبته الباشاوية ومنصبه يفرضان التصوير بالزي الرسمي وهو بدلة رسمية مزركشة بالقصب، ووضع الأوسمة والنياشين والقلادات على صدره، وعندما تم ذلك ظهر صدره من أكتافه حتى الحزام القصب المتدلي منه السيف مرصع تماماً بالأوسمة والقلادات والميداليات؛ ليتضح أنه أكثر شخصية مصرية تم تكريمها محلياً ودولياً في تاريخ مصر. ثقافته وتربيته الدينية الأزهرية صنعت منه رجلاً مصرياً عربياً للنخاع، وفي ذات الوقت دراسته بجامعة أوكسفورد البريطانية العريقة، جعلته ملماً بالشخصية البريطانية وطباعها وأسلوب التعامل معها، مما أعطاه دائماً اليد العليا في معاملاته مع ممثلي قوات الاحتلال البريطاني، فكانوا يحسبون له حساباً كبيراً، عندما تضطرهم الظروف إلى التعامل مع القصر، وتمكن من إنقاذ عرش مصر من براثن الاستعمار البريطاني بنصائحه، ويعتقد أن هذا كان سبباً في مقتله على كوبري قصر النيل عام 1946، عندما صدمت سيارته شاحنة تابعة للجيش البريطاني.

أود هنا أن أذكر بعض الحقائق والمواقف المرتبطة بشخص أحمد حسنين وحياته، والتي لها دلالاتها، فمن كتبوا عنه - أخيرا - أوحوا أنه كان «زير نساء» وخبيثاً ومتسلقاً، وهو ما يناقض جذور تربيته الأزهرية الوقورة وشخصيته، فقد كان ذا شخصية ساحرة جذابة مثقفا رفيع المستوى، واسع الاطلاع، يجيد عدة لغات إجادة تامة، مع إجادته الممتازة للغة العربية، وكان متديناً، ويكفي الاطلاع على كتابه في صحراء ليبيا أو مشمول محاضراته العديدة؛ لنتأكد مدى إيمانه بالله، فالكتاب والمحاضرات يحتويان على دلالات تكشف احترامه لكل مخلوقات الله، فقد كان يعشق الحيوانات ويرفق بها، وهي صفة ورثها عن والده الشيخ محمد أحمد حسنين، والذي كان يجمع الحيوانات الضالة بمنزله ويرعاها وامتد هذا العشق لأبنائه وأحفاده، كما كان ملتزماً بمبادئ دينه في كل أفعاله، ومسيرة حياته كانت غنية جداً بالرحلات والمغامرات الجسورة.

محمود القيسوني

(الخبير الدولي - السياحة البيئية)

التعليقات