في الحلقة الأولى تحدثنا عن حياة الرحالة المصري الكبير أحمد حسنين باشا الشخصية، وفي هذه الحلقة نتناول الجانب الذي يهمنا وهو حبه للصحراء، والتي كانت معشوقته وغرامه، حيث قام برحلتين الأولى عام 1920، بعد حصوله على مباركة ومعاونة، إدريس السنوسي، شيخ الطائفة السنوسية بليبيا، والذي ارتبط معه بعلافه صداقة منذ عام 1915، حيث كان هدفه بلوغ واحة الكفرة، وفي رحلته الأولى رافقته بريطانية تدعى روزيتا فوربس، تدعي أنها رحالة، ومع ذلك لا تجيد قراءة البوصلة، ولا أي من أجهزه التعامل مع الصحراء، ولا تجيد اللغة العربية، ولكن بإلحاح من أصدقاء مقربين لحسنين باشا وافق - على مضض - أن ترافقه، لكن بشرط أن تلقب باسم عربي (خديجة)، وأن ترتدي ملابس البدو طوال الرحلة مع تغطية وجهها، وتدعي أنها قرينته، نظراً لدخولهما أرضاً لقبائل البدو، التي لها تقاليد اجتماعية صارمة. وخلال الرحلة كادت أن تقتل روزيتا مرات عدة من رجال قبائل، لأنهم أصيبوا بالشك تجاهها، لولا التدخل السريع والحكيم لحسنين باشا وإنقاذه لها. وبسبب إدعائها إجادتها قراءه البوصلة، تسببت في انحراف مسار القافلة بالكامل، الأمر الذي جعلهم يضلون الطريق، وكادوا يموتوا عطشاً؛ لولا إرادة الله وعثورهم على بئر ماء، فنجوا جميعاً من هلاك محقق، وعندما عادت لبريطانيا ردت الجميل بجحود ونكران، حيث ألفت كتاباً 1921 اسمه (أسرار الصحراء – الكفرة)، وفي هذا الكتاب مجدت نفسها، وادعت أنها صاحبة فكرة الرحلة، وهي من أشرف على تفاصيلها بالكامل، ووصفت حسنين باشا بأنه كان أحد مساعديها، وتعمدت أن تسخر منه في مؤلفها، الأمر الذي أكسبها شهرة كبيرة لسنوات ولكن قليلة، حتى بدأ زيفها وكذبها في الانقشاع، عندما كشف المؤرخون وكُتّاب أدب الرحلات النقاب عن تفاصيل هذه الرحلة، وأعطوا حسنين باشا حقه، ولقبوه بـ"الرجل الشهم النبيل"، ورداً على حملتها الكاذبة؛ قرر حسنين باشا تنفيذ رحلة ثانية أخطر وأطول، يواجه فيها المجهول، الذي لم يدخله رحالة من قبله؛ بهدف اكتشاف عدد من الواحات المجهولة بالنسبة للعالم، والتي بلغت مسامعه معلومات غامضة عنها أثناء رحلته الأولى، وهو قرار نال إعجاب الملك فؤاد ملك مصر؛ فقرر تمويل الرحلة بالكامل، فقام أحمد حسنين بإعداد تجهيزات الرحلة، واختار مساعدين له، وقام بتجميع وترتيب ما يحتاجه خلال الرحلة المنشودة، من مأكل ومشرب وملبس وخيام وبعض الأجهزة العلمية وسلاحه وذخيرته، وقبل مغادرة منزل الأسرة متجهاً إلى رحلته، والتزاما بعادة متوارثة، بكل أسف اختفت من حياتنا اليوم، ذهب إلى والده ليستعين بخبراته ودعواته وكي ينال الموافقة والبركات لهذه الرحلة. وكان والده شيخا كبيراً ذو لحية بيضاء، وبالفعل أخذ والده في الدعاء له بالرحمة وسداد الخطى، وأن تكلل رحلته بالنجاح، ويعود سالماً غانماً، وأخذ يرتل الآيات القرآنية ثم وضع يديه على كتفي أحمد حسنين وقال، "سر بني رافقتك السلامة وسدد الله خطاك ووهبك القوة وأنجح مسعاك).
وفي صباح الـ19 من شهر ديسمبر من عام 1922 تحرك حسنين باشا، متوجهاً إلى الإسكندرية، حيث استقل باخرة إلى السلوم شمال غرب مصر.
وقبل الاسترسال في تفاصيل الرحلة أود أن أشير إلى الظروف، التي أدت إلى سرعة انتشار أخبار وتفاصيل هذه الرحلة على الساحة الدولية، فخلال الفترة من 1916 وحتى 1925 كان العالم أجمع مبهوراً بالصحراء، فقد اكتسح فيلم هوليود (الشيخ) لرودولف فلانتينو دور السينما ونال شهرة واسعة، حيث كان يدور حول مغامرة رومانسية في قلب الصحراء، الأمر الذي داعب خيال الجمهور وبهره، كما أخذت أخبار مغامرات توماس إدوارد لورنس والمشهور بـ"لورنس العرب" في الانتشار، وتعرف البريطاني، إدوارد لورنس، من خلال انضمامه للقوات العربية بقياده فيصل بن الحسين لمحاربة الأتراك 1916، ثم قيادته عملية احتلال العقبة عام 1918، إلى تضاريس صحراء الجزيرة العربية الوعرة، مما حوله لأسطورة شاهدناها في الفيلم، الذي أنتج عام 1962، وشارك فيه النجم المصري عمر الشريف. وفي هذا الوقت سطع نجم مغامر ورحالة مصري، أخذ مكانه مرموقة على المستوى الدولي وبهر العالم بشخصيته وجسارته ورجولته، وهو أحمد محمد حسنين باشا. ومن الأمانة الإشارة إلى المصادر، التي استقيت منها معلوماتي المرتبطة بهذا التاريخ العظيم، فهناك الكتاب الذي ألفه حسنين باشا باسم "في صحاري ليبيا" باللغة العربية، وكتاب "الواحات المفقودة" الذي ألفه باللغة الإنجليزية، وتمت ترجمته للغة الألمانية بالعنوان نفسه، كما اطلعت على قصاصات الصحف، والمجلات المصرية الصادرة خلال تلك الحقبة، ومجلة الجمعية الجغرافية الدولية، الصادرة عام 1924، والتي نشرت تفاصيل الرحلة التاريخية، ومعها صور رائعة.
وزين أحمد حسنين أولى صفحات كتابة ( في صحراء ليبيا) والمقصود الصحارى المصرية والليبية بأبيات شعر كتبها له أمير الشعراء أحمد شوقي، والتي يقول فيها:
هذا الكتاب رواية عن رحلة في التيه أو عن نزهة في الغاب
صحراء في طول الظنون وعرضها تطوى وتنشر في فصول كتاب
وقدم لكتابه أحمد لطفي السيد، مدير الجامعة المصرية، وببلاغته سجل رأيه في شخص أحمد حسنين وحبه وولعه بالصحراء، ومن ضمن ما كتب ( اقرؤوا كتابه ستجدون حبه لآفاق الصحراء، وغرامه بكل ما فيها يتجلى في كل موطن، بارزاً يغشى كل ما دونه من الإحساسات الأخرى)، كما كتب ( فما كل امرئ رحالة ولا كل نفس تطيق ما أحبته نفس الرحالة أحمد حسنين)، أيضاً كتب الدكتور هيوم، مدير قسم الجيولوجيا المصرية، في ذلك الوقت، (فتحت رحلة أحمد بك حسنين، أمامنا منطقة عظيمة كانت حتى الآن من الأمور المجهولة).
أحدثت رحلة أحمد حسنين دوى عالمياً، فقامت المجلة الجغرافية الدولية المعروفة بنشر تفاصيل رحلته في عددها الصادر في شهر سبتمبر 1924، حيث أفردت لرحلته 45 صفحة، مدعومة بـ45 صورة التقطها حسنين، خلال رحلته مع خريطة تفصيلية، ومقدمة من رئيس التحرير، يشيد فيها بإنجازه التاريخي، وسأسرد تفاصيل رد الفعل العالمي في نهاية حلقات هذه الرحلة، كما ذكرت قام أحمد حسنين بالإعداد المحكم لهذه الرحلات مسبقاً، فاستأذن سادة ومشايخ القبائل ذات الصيت بهذه الصحاري، ونسق معهم، ونال مباركتهم وتشجيعهم.
قرر أحمد حسنين باشا تنفيذ رحله متكاملة الجوانب، فكل قصور حدث في الرحلة الأولى، التي كانت في النصف الثاني من عام 1920، والتي بلغ فيها واحة الكفرة بليبيا في يناير عام 1921 - عمل على تلافيه في رحلته الثانية، خاصة ما يخص الأجهزة العلمية، والتي تساعده على توقع الأحداث بدقة، واستعان بالخرائط التفصيلية، وبدأ الإعداد والتجهيز لرحلة ستتعدى الأشهر السبعة، وسط الصحاري، وذلك بعد حصوله على إجازة الديوان الملكي بموافقة الملك فؤاد، مع التمويل الكامل للرحلة، فجهز الخيام والماء وآلات التصوير والعقاقير والحقائب والأسلحة والذخائر والأجهزة العلمية والهدايا، وحين وصل السلوم استكمل ما كان ينقصه من مواد تعينه على رحلته.
كانت خطه تحرك قافلة أحمد حسنين، تشمل الاتجاه إلى واحة جغبوب جنوب غرب السلوم، والتي كانت ضمن الأراضي المصرية في ذلك الوقت، ثم إلى واحة جالو غرباً داخل الأراضي الليبية جنوب بنغازي، وهي مركز لتجارة الصحراء وتجهيز الرحلات طويلة المدى بكل الإمكانات المطلوبة، ثم الانطلاق إلى واحات الكفرة والتي زارها في رحلته الأولى منذ عامين، وهي أقصى جنوب الصحارى الليبية، ثم الخوض في غمار الفيافي المجهولة، التي لم تطأها قدم مكتشف من قبل. لكن كان للقدر رأي آخر، فقد بدأت مخاطر المغامرة في الاشتعال من قاعدة الانطلاق أثناء وجوده في السلوم. فقبل التحرك بيومين كان جالسا منتصف الليل بمفرده في الاستراحة الحكومية يفحص الأجهزة العلمية، وإذا بطارق يطرق على بابه، وعندما فتح الباب وجد بدويا لا يعرفه، يقول له وقد بدا عليه الارتباك، ألا يذهب إلى جالو، لأن الأعراب مقتنعون أنه ثري جداً، وأن قافلته تحمل صناديق مملوءة بالذهب، فاتفقوا مع قائدي إبل قافلته على نصب كمين له، ونهب القافلة وقتل أحمد حسنين، وما دفع رحالتنا للاطمئنان لما جاء على لسان البدوي، أنه قد قدم له خدمة جليلة منذ زمن، وصباح اليوم التالي تحرك بسرعة فقام بالاستغناء عن جميع قائدي الإبل، الذين اختارهم خلال إقامته بالسلوم، واختار غيرهم، مع تغيير خط سير القافلة للتحرك جنوباً إلى واحة سيوة -320 كيلومتراً جنوب السلوم - كما اختار رجلاً من السلوم يدعى حمد؛ لينضم إلى رفاقه المقربين عبدالله وأحمد، وكان حمد من أشد الرجال إقبالاً على العمل، وأصبرهم كما كان شغوفاً بالإبل، خبيراً بأحوالها، فكلفه أحمد حسنين بهذه المسؤولية، وسيوة واحة معزولة خلابة مليئة بالزراعات، وتقع في منخفض يبلغ 17متراً تحت سطح البحر، ومساحتها ألف كيلومتر مربع، يشاركها في المنخفض نفسه واحة جغبوب غرباً داخل الأراضي الليبية، وينتمي أهلها إلى قبائل البربر الأمازيغ، وهي التي توج فيها الإسكندر الأكبر ملكاً على مصر، ونال لقب ابن أمون، والتي ظل الوصول لها بالغ الصعوبة، واحتمالات الفقد وإضلال الطريق واردة بقوه، وعام 1980، أي بعد 57 سنة، من زيارة أحمد حسنين لهذه الواحة تم رصف طريق إسفلتي بينها وبين مدينه مطروح، والتي كانت في التاريخ القديم ميناء بحرياً لسيوه.
كان لقرار أحمد حسنين تعديل مسار طريق الرحلة، الأثر المباشر في زيادة عدد الأيام، التي يحتاجها للوصول إلى واحة جغبوب.
تحركت القافلة من السلوم أول يناير 1923، وقد عمد حسنين باشا إلى إخفاء الصناديق التي تحتوي أشياء ثمينة، وأظهر فقط أثاث البدوي العادي، وبعد ستة أيام بلغت القافلة سيوه، حيث قضت ثلاثة أيام، وسجل حسنين مشاهداته بالواحة وبعضاً من العادات والتقاليد، التي كان يتبعها أهلها، وكانت غريبة جداً، ومن هذه العادات على سبيل المثال، المرأة التي تفقد زوجها؛ تُمسك عن الاستحمام أربعين يوماً، وتحتجب عن الأنظار، ويقدم لها الطعام من فتحه صغيره في الباب. وبعد أربعين يوماً تتوجه لأحد عيون المياه العذبة، حتى تستحم ويتجنبها الناس في ذلك اليوم، وتلقب بـ"الغولة" لاعتقاد أهل سيوه أنها تجلب النحس لكل من يقع نظره عليها في ذلك اليوم. ومن ضمن ما سجله حسنين باشا وجود مقام بسيوه لأحد الأولياء، فإذا قرر أحد سكان الواحة السفر، يترك متاع السفر بجوار المقام، فلا تمتد إليه يد إنسان، ولا يفكر أحد في التعدي على الأشياء المودعة عند هذا المقام، مهما كان ثمنها غالياً؛ لاعتقاد الجميع أن من يفعل ذلك يُبتلى بالنحس، وسوء الطالع مدى حياته، كما شاهد وصور حصن شالي- والذي مازالت أطلاله موجودة، ويعود هذا الحصن إلى القرن الثالث عشر، ويتألف من سلسلة من الأكواخ، التي بنيت من حجارة الطين؛ لحماية سكان سيوه من غزاة الصحراء. والآن لم يعد هذا الحصن المهجور سوى صرح مرتفع يضم العديد من الغرف والممرات- وأثناء وجوده في سيوه استأجر إبلاً إضافية، واختار رجلاً من أهالي الواحة، ليكون الرابع في المجموعة المقربة من أحمد حسنين. ثم غادروا سيوه لتبدأ المرحلة الثانية من رحلته، والتي ينقطع فيها اتصاله عن العالم الخارجي تماماً، فلا خدمات بريدية، ولا شيء يباع إلا القليل من الأرز والقماش وبسعر غالٍ جدا، وفي هذه المرحلة استبدل حسنين ملابسه بالزي البدوي المناسب لمناخ الصحراء، وهو الذي اشتهر به في الصور الوثائقية المرتبطة بهذه الرحلة، وكان لارتدائه هذا الزي وقع السحر على رجال القافلة، والذين تقدموا منه وشدوا على يديه، وأعلنوا أنه من الآن صار منهم، وتحركوا غرباً صوب واحة جغبوب، والتي كانت ضمن الأراضي المصرية في ذلك الوقت، وعندما بلغوا مشارفها، بدأ أفراد قافلته في إطلاق الرصاص من بنادقهم في الهواء، احتراماً لعادة أهل الصحراء؛ بإعلان اقتراب قافلة، فدخلها وأقام فيها خمسه أسابيع؛ ليستعد للمرحلة الثالثة، حيث وجهته المقبلة وهي واحة جالو، والتي تبعد مسافة 350 كيلومتراً غرب جغبوب داخل الأراضي الليبية.
محمود القيسوني
(الخبير الدولي - السياحة البيئية)
التعليقات