قيل بتعريف الفن بأنهُ جملةُ الوسائل التي يستعملها الإِنسان لإِثارة المشاعر والعواطف وبخاصة عاطفة الجمال، كالتصوير والموسيقى والشعر، ومنها جاء مُسمى الفنان والذي يمكن أن ننعت بهِ الشاعر والنحات والرسام والممثل والموسيقى والحرفي، وباللهجات المحلية لمعظم الدول العربية يوصف من يتقن الشي أنهُ فنان، أما بالمعجم فإن جمع كلمة فن هي أفنان وأفانين وفنن وفنون.
والكلمات الثلاث الأولى للجمع كلمات مستاقه من الطبيعه فالأفنان والفنن هي الأغصان والأفانين جمعها، إذا هي الطبيعة المتمثلة بالشجرة رمز الحياة، رمز البقاء، رمز الأرض، فالطبيعةُ هي عامل الإلهام الرئيس بأعماقِ صاحب الفن وهي العنصر المهم بداخلهِ وإذا ما امتزج هذا العنصر مع الموهبة حتى يتشكل منهُ مُرَكب خليط يفضي للفن المنشود سواءً أكان قصيدةً أو لوحةً أو معزوفة جميلة، إن معظم الفلاسفة والنقاد يصنفون الطبيعه بأنها العامل الأهم بتشكل بذور الفن داخل الفنان ومنهم أرسطو والذي يقول: إذا كان طريق ما أفضل من آخر فتأكد أنّه طريق الطبيعة..... بينما ذهب ديكارت لأبعد من ذلك حيثُ اعتقد بأن علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة سيطرة وتحكم ومواجهة، كان يقصد المفهوم الفلسفي بشكلٍ عام ولكنه وضح دور الطبيعة في نهضة الفنون والعلوم بداخل الانسان ومدى تأثيرها عليه ومدى تأثرهِ بها .... إذا هو جنوح منحاز نحو الطبيعة وما فيها من مصادر و عناصر تتشابكُ وتمتزجُ بفؤاد صاحبها ليبدع بنظمِ فنٍ رائعٍ بهيج.
من بين هذا وذاك يتشكل السؤال المهم، هل الطبيعة هي الركيزة الأساسية التي بها يتم تشييد وإنشاءِ صرح الفن وقيامه؟...
هل هي المحرض الوحيد بداخل الشاعر أو الموسيقي أو النحات ؟....
هل الطبيعةُ هي عامل الإلهام المنطقي لبذور تكوين الفنون ؟....
أسئلة كثيرة تُطرح ويدعمها رأيُ عُتادِ الفلاسفة والنقاد وتفضي إلى جوابٍ أوحدٍ قطعي وهو نعم أكيد هي الطبيعة ....
بل يذهب البعض للقول بأنهُ كلما كانت الطبيعةُ أجمل كان الفنُ أرقى وأسمى من غيرهِ، فالنظر للنهرِ والجدول والتأمل بالجبلِ الأخضر المفروشِ بنفائس الزهور والاستماعُ لحفيفِ الشجر المداعبِ للنسائمِ الباردة مع تغريد البلابل واستنشاقِ عبقِ أديم الأرض الممزوجة بالمطر (البتريكور) وصوتُ الثغاءِ القادمِ من المرعى الأخضرِ النضير والمصاحبِ لصوتِ عزفٍ رقيقٍ منبعثٍ من شبابةِ الراعي المستظلِ تحت الأدواحِ كلها عواملٌ أساسية بتوليدِ الإلهام وتكوين تشكله، وكلما ابتعد الإنسان عن الطبيعة واتجه نحو المدينة الصاخبة ذات الحديد والأسمنت كلما قل ذاك الإلهام ولربما انعدم، وهذا ما عانا منهُ الشاعر الكبير بدر شاكر السياب حينما ابتعد عن القرية وعاش في المدينة والذي أسماها (غربة الشاعر أو غربة القروي) حيثُ كانت المدينة شرسة موحشة على فنهِ وشِعره مثلما كانت القاهرةُ قاسيةً وعنيفة على الشاعر أمل دنقل، فالابتعاد عن الجدول والشجرة والمرعى والحقل قيد المارد الهائج بفؤاد الكثيرين من الأدباء والشعراء وأخفضَ من منسوبِ الجمال بداخلهم والذي منهُ أنشؤوا الخيال الوقاد والفكر المنبعث من الطبيعه السخية الخضراء .....
ولكن إن كانت الطبيعة الجميلة المتمثلة بالسهلِ الأخضر والحديقة الغناء و النهر الرقراق والغابةِ الغراء كلها عوامل حتمية لجمال الفن لماذا كانت الصحراء الجرداء هي مبعثَ الإلهامِ لأجمل فنٍ من فنون الأدب العربي وهو فنُ الشعر وبالذات الشعر الجاهلي في عصرٍ لم يكن فيه سوى روحُ البداوةِ الساميةِ والصحراءِ المقفرةِ العفراء والخيمةِ السوداء وقيظِ الحر الشديد، ومع ذلك نشأ من هذهِ العوامل شِعرٌ وأدبٌ خالد يُظهر كميةً من الجمال لا يضاهيهِ جمال ولم ينافسهُ كلامٌ بالبلاغة والفصاحة بل و يغلبه سوى كلام القرآن الكريم والذي جاء إعجازا بلاغياً في وقتٍ كانت فيهِ قبائلُ العربِ تتنافس فيما بينها بشعرائها الفحول و أيهما أكثرُ جزالةً بالشعر وبلاغةً بالوصف وهم جميعهم أبناءُ الصحراء وسكان ربوعها و بواديها.
ألم تكن الصحراء وقتذاك هي الطبيعة الوحيدة المحيطة بهذا الفن وهي تخلو من صوتِ البلبل الصداح ونفحة النسيم الباردة و منظر الغابةِ النضرة، وعندما شمل الفتحُ العربي الإسلامي بقيةِ الأمصار وأخذ الشاعر العربي يتعرفُ على بيئةٍ أخرى غير الصحراء يتمثلُ فيها الوادي والنهر والغابة والأريام مثل بلادِ الشام وبلاد فارس و الأندلس، فأخذ ينصهر في بوتقتها وينعكس ذلك على اسلوبِ أدبهِ وشعره، فمثلاً الشعراءِ الذين عاشوا في أكنافِ الأندلس وهي موئل جمالِ الطبيعة المتجسد بوفرةِ الماء العذب والشجر الأخضر والجو المعتدل صاروا ينسجُون شعراً بديعاً جميلاً يكاد أن يسحر بجمالهِ الألباب مثل أشعارِ إبن زيدون وإبن خفاجة وأبو البقاء الرندي، حيثُ استاقت أشعارهم من الطبيعة المحيطة أجمل الأوصاف و أرقى المعاني، ورغم جمالية هذا الشعر البديع الناشئ في حضن الطبيعة الأندلسية الخلابة لكنهُ لم يطغى على رونقِ وجمالِ الشعر العربي الذي بقي حبيس طبيعةِ الصحراء القاسية ولم يبرحها كشِعر جرير مثلاً الذي ولد و مات في نجد، كذلك لم تسمو القصائد الأندلسية وتعلو فوق قصائد الشِعر الجاهلي الذي نشأ بين ظهراني الصحراء الموحشة والخالية من أي زرعٍ وماء، إذ لم يكن للطبيعة الجميلة دوراً رئيساً هنا بل تُرك تحديدُ منسوب الجمال ومحرض الإلهام لبراعة الشاعر و موهبتهِ الفذة المتقدةِ بداخله فقط دونما استناد لجمال الطبيعه وما تحتويه، وهذا يدل على أن الطبيعة الجميلة ليست المصدر الأساسي والوحيد لبراعةِ الفن لربما قد تكون من عوامله الكبرى و لكنها أحياناً لا تكون البتة.
فكم من شاعرٍ و أديبٍ وروائي ورسام نظم أجمل فنونهِ وهو قابعٌ في غيهب السجن سواءً أكان في سردابٍ مظلم لا يبصر النور أو في زنزانةٍ صماء تخلو من الحياة ومن هناء جاء ما يسمى ( بأدب السجون) فرغم قساوةِ الظروف المحيطةِ بالفنان إلا أنهُ يبدعُ بالشعرِ أو الكتابةِ أو الرسم وهو لا يملكُ نافذةً تطلُ على البحر وصوتُ هدير الشاطئ يبعثُ فيهِ الإلهام، و لا يملكُ شرفةً تفضي إلى روضةٍ خضراء أو جبلٍ أشم تكسو الثلوج قمته فيبدع بالوصف واستجراحِ الكلام ، كلا إنهُ قابعٌ في سجن صلدٍ وموحش ومع ذلك ينسجُ شعرا و أدبا يضارع فيهِ شعر و أدبِ من يتخذ من جنةِ عدنٍ سكناه ....
بمحضِ الصدفة لا أكثر ومن باب الفضول اطلعتُ على قصائد بعض شعراء شعب الاسكيمو بالتأكيد هم غير معروفين أبداً ولم أسمع بهم من قبل مطلقاً لكني أعجبت ببعضهم مثل الشاعر (باينغوشو ) وآخر اسمهُ (لوك إيسالاك) كانت هنالك كمية جمال رائعة في قصائدهم فمن أين لهم هذا ومن أين استلهموه؟ فالطبيعة المحيطة بشعوب الاسكيمو اكادُ أجزمُ أنها تخلو تماماً من مظاهر الجمال والإلهام فلا شيئ هناك سوى اللون الأبيض الدائم وشمسٌ مشرقة لمدة ستة شهور تضيىُ ولا تدفئُ أبداً، وظلامٌ دامس لمدة ستة شهورٍ أخرى وزمهريراً يجمد الدم بالعروق في غضون ثوانٍ وعواصف قطبية لا يحتملها مخلوق، ومع ذلك خرج منهم شعراء نظموا كلاما سلساً راقياً جميلاً يوحي إليك بأنهم مجتمع يسكن الغابة ويستيقظ على صوت خرير الجدول ويستنشق رائحة خبز التنور مع انبلاج الصباح ، إذاً الفنون لا تستلهمُ من الطبيعةِ دائماً ولا تكون هي مصدر الإلهام فلربما الموهبة فقط يكون لها القولُ الفصل بذلك ولا شيئاً آخر سواها ، فوجدان الإنسان الداخلي وبواطن خفاياه فيها من الطبيعة والخيال ما يضاهي الطبيعة ذاتها فالخيالُ الخصب هو عاملُ التحريض الدائم والذي بهِ تتجمل القصيدة و تُسبك ألوان اللوحة وتنتظمُ بهِ سطور الرواية.
وبذلك يستمر الإعجاز الخفي المتمثل بتيارات و أفكار العقل والتي تعجز عن إدراكها شتى صنوف العلوم أو حتى الإحاطة بمكنوناتها و بواعثها.
التعليقات