الموت فقط هو القادر على كشف شعورك الحقيقي تجاه شخص ما بكل صدق، لدرجة قد تجعلك تشعر أحياناً أن روحك تُريد أن تخرج من جسدك لتُودعه، وربما تضمه وتحتضنه للمرة الأخيرة.
وهنا نسأل أنفسنا، ما كل هذا الحب الذي نكنه لهذا الشخص؟! وأين كان مدفوناً؟! ولماذا لم نشعر به أو نُعبر عنه؟! ربما لأن الموت هو الحقيقة الوحيدة في حياتنا التي لا يستطيع إنسان أن يتلاعب بها، أو يُحرفها، أو يُزايد فيها أو عليها، هناك أيقونات من النجوم والفنانين رحلوا في صمت، وهناك من قامت الدنيا ولم تقعد ثانية لرحيلهم، ومنهم أيقونة الكوميديا وصانع البهجة الفنان سمير غانم أو "سموره" كما نحب جميعاً أن نُلقبه، حتى وهو في الثمانين من عمره.
انقلبت الدنيا وحسابات التواصل الاجتماعي حزناً وحباً بمجرد إعلان خبر الوفاة، ولم تقعد حتى لحظة كتابة هذه السطور، فكل بيت في مصر شعر بفقد الأب قبل الفنان، لقد نجح الفنان سمير غانم بعطائه غير المحدود لجمهوره ومُحبيه في أن يزرع هذا الحب على مدار عُمره وتاريخه الفني، في كل شخصية جسدها، وفي كل لحظة بهجة عشناها معه، فقد أصبحنا نُشاهده بعقولنا قبل أعيننا، ونسمعه بقلوبنا قبل آذاننا، تاريخه الفني وأعماله محفورة في ذاكرتنا، وتُشكل الخط الزمني لحياتنا منذ الطفولة.
التقيت الفنان الراحل سمير غانم مرات عدة خلال برامج تلفزيونية كنت أكتبها وأعدها، الفنان الوحيد الذي لا يسألك عن تفاصيل مُعقدة قبل استضافته، يعيش حياة سهلة وبسيطة، بعيدة عن "عُقد" أهل الفن، طيب القلب، لا يتحدث عن أحد إلا بالخير، يجبر خاطر كل من يلقاه، يمد يد العون للجميع، شارك في أفلام لا ترقى لمكانته الفنية من أجل علاج شقيقة "سيد" من الفشل الكلوي في أمريكا، لم يتردد لحظة في قبول دور قد لا يتعدى مشهداً واحداً فقط كضيف شرف، لمجرد أنه سوف يُسعد جمهوره.
فنان حقيقي من زمن انتهى، فنان أحب جمهوره حباً صادقاً، عاش حياته فناً فقط بلا ضوضاء، أسس مدرسته الكوميدية الخاصة، أو بشكل أدق مدرستة الفلسفية في الكوميديا، مدرسة لها شكل ولون وطعم ورائحة، مدرسة لم يكن يُنافس فيها غير نفسه، وفي جميع لقاءاته التلفزيونية، دائماً ما كان يتحدث بسعادة عن نجاح زملائه في الوسط الفني ونجوميتهم، ولم يتحدث مرة واحدة عن نفسه أو نجاحه، ولم يكن يوماً صاحب "شلة" من الإعلاميين أو الصحافيين، فحياته كانت دائماً فناً وأسرة، أسرة تشبه كل أسرة مصرية، زوجة وأم مصرية أصيلة من محافظة الشرقية هي الفنانة القديرة دلال عبدالعزيز تعرف قيمة وأصول ومعنى الأسرة الحقيقية، وعندما نشاهد "دنيا وإيمي" في أي برنامج تليفزيوني، نشعر أنهما قريبتان منا ومن قلوبنا وروحنا، حتى زوجيهما الإعلامي رامي رضوان، والفنان حسن الرداد، عندما شاهدناهما يوم تشييع جثمان الفنان سمير غانم شعرنا أنهما أبناؤه وليسوا مجرد أزواج بناته.
لقد أبكانا رحيل الفنان سمير غانم قدر ما أسعدنا وأضحكنا على مدار 60 سنة، لقد تأثرنا أيضاً برحيل الأب لهذه الأسرة الجميلة، التي يملؤها الحب والترابط، والاحترام، والأصالة، والإخلاص، تأثرنا بالفنانة دلال عبدالعزيز التي لم تكن تترك جنازة أو عزاء لم تحضره، لدرجة أن الفنان سمير غانم كان يُسميها "عزاء عبدالعزيز"، ومع ذلك لم تحضر جنازته لأنهم أخفوا عنها خبر وفاته حتى لا تتدهور حالتها الصحية، شفاها الله.
عندما تبحث في محرك البحث غوغل عن الفنان سمير غانم لن يظهر لك غير أعماله وتاريخه الفني في السينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة، ولن تجد أخباراً عن جوائز أو تكريمات إلا ما ندر، والتي كان آخرها تكريم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته الـ 39، وفي لحظة تكريمه روى حكاية تُشبهه قائلاً: (كنت بتفرج على حفلة أوسكار، وكان الممثل الأمريكي كرستوفر بلامار بيتكرم، بعد ما وصل تمانين سنة، مسك جائزة الأوسكار في إيده وقال "80 سنة وأنا مستنيك".
ورغم الضحكات التي تعالت والتصفيق الحار، والحفاوة من جميع الحضور، الذين وقفوا جميعاً لتحيته تقديراً واحتراماً وحباً، إلا أنه أراد أن يُرسل رسالة مفادها أن الفنان الحقيقي لا يلهث وراء الجوائز والتكريمات، لكنه في نهاية المطاف ينتظرها ويسعد بها لأننا بشر ونحتاج لمن يقول لنا شكراً حتى ولو كانت بعد 60 سنة.
والفنان سمير غانم رغم مشواره الفني الثري، إلا أنه لم يكن يوماً من نجوم الصوت العالي، رغم تاريخه الكبير، ورغم مسرحياته التي استمر عرضها لأكثر من 5 سنوات للمسرحية الواحدة، وإفيهاته التي أصبحت جزءاً من لغتنا "عبدالسميع اللميع"، " أنا قريت في مجلة أجنبية"، "كل بروتين والعب في الطين"، "العريس متين والعروسة متينة"، "فشر يا روحي إحنا غلابة"، وغيرها العشرات.
لقد ترك لنا الفنان سمير غانم رصيداً يقارب من 200 فيلم، و70 مسلسلاً تليفزيونياً، و50 مسرحية، بالإضافة إلى فوازير رمضان التي بدأها مع ثلاثي أضواء المسرح عام 1968، ومع بداية الثمانينيات قدم فوازير "فطوطة"، المنحوتة في ذاكرتنا جميعاً، فمجرد أن نذكر اسم "فطوطة" يتدفق سيل من الذكريات صوتاً وصورة وإحساساً، وسعادة أيضاً.
كلمة أخيرة:
سألت المذيعة الفنان سمير غانم، هل تفضل الضحك من أجل الضحك أم الضحك كرسالة، فأجاب: الضحك من أجل الضحك هو في حد ذاته رسالة، رحمك الله يا "سموره" قدر ما أسعدتنا، وقدر ما أحببناك من قلوبنا.
التعليقات