عندما تتأمل أحوال الشاشة الصغيرة في رمضان الذي ودعناه منذ أيام قليلة، ستجد نفسك أمام مشاهد مفروضة تجمع بين دراما غريبة وإعلانات عجيبة تصر تقسيمنا وتغريبنا عن مجتمعنا ووضعنا في حالة تقتضي البحث عن بوصلة تحدد اتجاهنا!
أما الدراما فإن معظمها باستثناء عدد قليل من المسلسلات مثل (اختيار2) لا يعبر عنا نحن أبناء الطبقتين الوسطى والدنيا اللتان تشكلان معظم أبناء الشعب المصري، فالمسلسلات التي عرضت خلال رمضان لا تنتمي للحارة المصرية التي جسدها أسامة أنور عكاشة تلفزيونيا في ليلي الحلمية، مثلا ، ولا تنتمي للصعيد الذي عبر عنه محمد صفاء عامر في العديد من المسلسلات مثل ذئاب الجبل و الضوء الشارد، حيث شاهدنا كيف جسدت تلك المسلسلات بيئة الصعيد وأجوائه بدقة ومهارة عالية. في حين وجدنا في بعض المسلسلات التي عرضت هذا العام خلطا بين الجدعنة والبلطة، وكلمات سوقية، وتدخين شره طوال الوقت، ومشاهد مبتذلة، رفضها الجمهور الواعي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وانقل بتصرف نموذجا منها:"نحن أبناء الطبقة المتوسطة المجتهدة الراقية بكفاحها، ممن نشأوا على إن الدين والتربية والتعليم هى القوانين التي تحكم أى بني آدم طبيعي محترم عايش في مصر.عندنا حالة من الرضا وغنى النفس فوق ماتتخيل، نجتهد ونكدّ في حياتنا لنربي عيّالنا ، ليكنوا مستورين.. لا عمرنا عرفنا المطاوي والسنج والعيّال بجنازير حول رقبتها، إلا في أفلامكم ومسلسلاتكم، ولا عندنا علاقات غير شرعية عجيبة بين السيدات والرجال.. ولا بنتي تصاحب واحد وانا عارف وراضي! ولا بنات يسهروا مع بعض في شقة في الساحل وبموافقة الأهل! ولا خيانات على التليفونات".
أما المسلسلات التي تناولت الصعيد فقد كان رفض أبناء الجنوب لها، عبر شبكات التواصل الاجتماعي صارما، ولعل ما كتبه الدكتور حسن على أستاذ الإذاعة والتليفزيون بكلية إعلام السويس نموذجا دالا على ذلك: "صعيدي أنا، ميلادا ونشأة، أعرف الكثير عن الصعيد.. أفتش عنه في دراما هذا العام وأعوام سابقة فلا أجده .. تستفزني تلك الدراما القائمة علي (عمة وجلبية وبوق معووج ) فتصبح في نظرهم معبرة عن الصعيد ..لا أنا ، ولا أي صعيدي يجد نفسه في تلك المسلسلات التي تصورنا ذئابا ومعدومي التربية ولا يحترمون الأباء ...تجاهل كتاب الدراما مصائب الصعايدة مثل عبارة «السلام 98» ، راح ضحيتها أكثر من 1000 شخص من محافظتى قنا وسوهاج، ومتاعب الغلابة في الخارج مع الكفيل وهناك مئات القصص المحزنة لم يجرؤ كاتب علي الاقتراب منها !صعيد مسلسلات رمضان 2021 ليس صعيدنا، فنحن لسنا لصوص ولا تجار آثار ولا قطاع طرق ولا عديمي التربية ولا متعصبين ولا عصبيين".
وفي الوقت نفسه تجاهلت دراما رمضان هموم الناس الحقيقية وبخاصة فيروس كورونا.. فلا يوجد عمل يرصد جهود الجيش الأبيض من الأطباء ؛ ولا معاناة المرضى، ولا تداعيات الوباء على التعليم.
أما الإعلانات فقد كملت هذه الخطة حيث وجدنا مصر وفق حملات الترويج، مقسمة إلى قسمين، الأول يسكنه الفقراء حيث تدعوك الإعلانات إلى التبرع لشراء ما يلزمهم بدءا من شنطة رمضان ومرورا بتوصيل المياه النقية، وانتهاب ببناء المستشفيات لعلاجهم. والثاني يسكنه الأغنياء في الكامبوندات، حيث تدعوك الإعلانات الى الهرب من القسم الأول إلى العيش في الثاني.وتنقلك مباشرة الى المدينة الفاضلة في تلك الكامبوندات حيث يسكنها أناس في قمة الأناقة، وأطفال يلهون وسط الخضرة والزهور، وجميلات ترقصن بمناسبة وبدون مناسبة، ورابعهم كلبهم المدلل الذي يصاحبهم في حمامة السباحة أو ينظر إليك باستغراب من نافذة السيارة الفارهة!
لا ننكر أهمية الترويج لدوران عجلة الإنتاج ، ولكن لا يمكن أيضا قبول هذه الفوضى الإعلانية التي تخصم من رصيد المجتمع القيمي وتفتت تماسكه.
إن الإلحاح المكثف على الاستهلاك والترويج المستمر له يخلق ثورة تطلعات، تتبعها ثورة احباط لدى غير القادرين.
العديد من البحوث العلمية حذرت من الآثار السلبية للإعلانات ، التي لم تعد مجرد ترويج لمنتج من خلال إبراز مميزاته، وإنما أصبحت عمل فني يبث، رسائل أخرى خفية وخطيرة، لتزيف الوعي، فينحصر التحدي في نوع طعم السمنة الصناعي ويقتصر عيش اللحظة على تناول مشروب غازي، معروف ضرره الشديد بالصحة. وتتقلص الحياة الكريمة في كمباوند ، وهو أمر بعيد عن متناول غالبية الشعب، وبعيد عن تفكير الدولة وخططها لتوفير الحياة الكريمة للمواطنين.
وهكذا تحول الرسائل الخفية للإعلانات، المتلقي الى زبون مسطح يساهم بفاعلية في رفع أرقام المبيعات وخفض أسهم القيم الأصيلة!
التعليقات