عادت "شجن" بعد سنوات عدة إلى منزلهم القديم حيث ولدت وترعرعت، كان ضوء الصباح جميلًا والجو منعشًا والشارع يعج بالحركة، كـ حاله كل صباح، أشخاص ذاهبون إلى العمل وآخرون للتسوق وشراء الخضروات باكرًا قبل أن تهجم الشمس بقسوتها، وأناس بعربات الفول التي اتخذت مكانها على حافة الطرق وشرع أحد الباعة يفرش فوق الرصيف بضاعته...
عندما وصلت؛ وقفت في لحظة صمت أمام المنزل، إنه مكان خارج الزمن محمي من كل ما حوله بالأشجار التي تحيطه وبعض نسائم الهواء العليلة تحرك أوراق الشجر، فتنبثق منها رائحة الزمن الجميل التي تناثرت في الفضاء وذهبت بـ "شجن" للحظات إلى اللاواقع.
دفعت البوابة العالية ببطء، ومع أول خطوة خطتها داخل المبنى تسربت الذكريات إلى عقلها، فرأت قدميها الصغيرتين تخطوان لتدخل باكية إلى العمارة بزي الروضة الأزرق الفاتح، فلقد ضربها كالعادة جارها وزميلها في الروضة "هادي"، الذي لم يكن له أي نصيب من اسمه إطلاقًا.
في زمنها؛ كانت الروضة تصطحب الأطفال من منازلهم بعربة أشبه بالهودج الكبير يجرها حصان قوي، وكان لذلك الهودج في كل جانب من جوانبه الأربعة، شرفة بستائر، كان الطفل المطيع المحظوظ فقط هو من يُسمح له بالوقوف في إحدى تلك الشرفات الأربع؛ فيشاهد الناس ويلوّح لهم كأمير أو أميرة، ولأن "شجن" هادئة الطبع مطيعة؛ فكانت تحظي دائمًا بالوقوف في إحدى تلك الشرفات سواء في طريق العودة أو الذهاب إلى الروضة، لم يرق هذا لـ "هادي"، كان يمنعها دائمًا، لم يكن يريد أن يراها أحد، وكان يطلب منها إذا وقفت في الشرفة أن تسدل الستارة حتى لا يراها المارة، أما هي؛ فلم يكن يروق لها ذلك، ورغم هدوئها كانت عنيدة، ونتيجة ذلك العند (علقة سخنة) من "هادي"، لذلك تدخل كل يوم باكية؛ فيعلم جميع من في العمارة بعودة الأطفال من الروضة وأولهم "أم شجن" في الطابق الثالث و"أم هادي" في الطابق الثاني، فتقوم بدورها وترد له (العلقة السخنة) لتطيب خاطر "شجن" فتكف عن البكاء.
نظرت إلى بهو السلم والجدران، لقد هرم كل شيء حولها مثل روحها تمامًا، لمست تلك الخدوش المنحوتة على الجدران، ما زالت تلك الرسومات الطفولية المبعثرة حية تشهد على براءة الطفولة، صعدت خطوة خطوة، وفي كل خطوة تتربص بها الذاكرة، هنا كانوا يتسابقون على ذاك الدرج، بل كانوا يختبىونْ في باحته ليخيف بعضهم الأخر، رءوس خاوية لاهية لا يملؤها إلا البراءة، كان "هادي" دائمًا بمثابة ظلها وهي أيضًا رغم الشجار اليومي بينهما لا تلعب إلا معه في الروضة أو البيت أو حتى الشارع.
عندما وصلت أمام منزلهم في الطابق الثاني كان خاويًا، لقد رحلوا جميعهم إثر زواج الأطفال ووفاة الأب، ورحلت الأم بدورها وسكنت مع أحد أولادها.
جلست "شجن" أمام المنزل على عتبة السلم واستندت إلى جدار الذكرى؛ فأغلقت عينيها لتفسح لذكرياتها المجال، هنا في الباحة توالت في ذاكرتها صور متلاحقة على شكل لقطات من فيلم صامت بالأبيض والأسود، رأت نفسها وهي طفلة تلعب معه في الباحة لعبة (الآل)، لعبة مصنوعة من خمس أحجار (لا يعرفها إلا جيل الثمانينات) كانت شجن دائمًا تخسرها أمامه.
وتنقلها الذكرى إلى يوم آخر ذهب هو لمنزلها بكل شموخ وسعادة يسأل عنها متأبطًا لعبة جديدة (السلم والثعبان) يريد أن يعلمها إياها، كان لقائهما دائمًا يبدأ بالسباب الطفولي، فكان يلقبها بـ "البلهاء" وهي تلقبه بـ "الأبله" لم تعد تذكر متى نادته باسمه أو متى ناداها هو باسمها، لقد عاد إليها في لحظة خاطفة نفس الشعور الذي أحسته وهي تنظر للعبة الجديدة، سعادة مع فضول، وهو بكل كبرياء يعلمها قواعد تلك اللعبة، انقلبت السعادة في ثوان قليلة إلى حزن وامتزجت دموع السعادة والحزن معًا من جديد على وجنتيها، سألت نفسها (أين مرت تلك السنون)!
لم تسلم ذاكراتها من أخيها "عماد" و"عصمت" أخت هادي، لقد كانا في عمر واحد مثل "شجن" و"هادي" لكنهما كانا دائمي الشجار، وشجارهما اتسم بالحدة والصرامة على أدق الأشياء، وإذا استعار أحدهما شيئًا من الآخر يطالبه به بعد أن تمر ساعات قليلة، لم يكونا منسجمين على الإطلاق ودائمًا على خلاف.
أما "ندى" أخت "شجن" وتامر الأخ الأصغر لـ "هادي" فكانا ثنائيًا مشاكسًا مختلفًا، كانا مثالًا للضجة والمرح والشقاوة البريئة وكانا أيضًا في العمر نفسه.
كانوا جميعًا جيرانًا كالثلاثة توائم، شجن وهادي، عماد وعصمت، ندى وتامر.
كان بيتًا واحدًا وقلبًا واحدًا، إذا كان لدى أهل "هادي" مشكلة كان يسعى لحلها أهل "شجن" وبالعكس، لقد صدق فيهم قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
تذكرت شجن في جلستها مرحلة الثانوية العامة، فمنذ الصف الأول كان يستعير "هادي" له ولها "الملخصات" من زملائه الذين انتقلوا للصف الثاني حتى لا تتكبد عناء شرائها، وكم كانا يدرسان معًا طوال الوقت رغم الشجار المستمر، لكنه شجار طفولي بريء لا يتعدى دقائق.
تعرض "والد هادي" لمرض مزمن اضطر "أم هادي" للعمل في كل شيء وأي شيء حتى تربي أولادها تربية لائقة، عانت "أم هادي" وتجرعت مرًا حتى كبر الصغار ووصلوا إلى مناصب مرموقة.
تربص بذاكرة شجن أيضًا أصحاب البيت الذي كانوا جميعًا يسكنونه وأمهم الحنون التي كلما رأت "شجن" رَقتها من عين الحساد، وتذكر "شجن" أيضًا أخاها "عماد" عندما يفقد التركيز في دروسه ويطلب منها أن ترقيه، كانت باذخة الحنان، فقد عانت هي الأخرى في تربية أبنائها، كانت أرملة وأمًا بمعني الكلمة، وكان لها بنتان وولدان، ابنتها الكبرى آمال في عمر "صفاء" أخت "شجن" الكبرى، والصغرى "حنين" بعمر "شجن" نفسها، أما الابن الأصغر فكان بعمر أخو شجن الكبير "إبراهيم"، كانت تعده "شجن" بمثابة أخيها "إبراهيم" نفسه، وكان يكن لها من الحب الأخوي الكثير، ودائمًا يهاديها كطفلة.. فالشقتان كانتا ملازمتين وتتشاركان الدور الثالث.
كل شيء في الشقتين كأنها شقة واحدة، "البلكونة"، التلفاز"، وأحيانًا الطعام، فالموائد الدسمة لا تحلو إلا بهم، كان "والد شجن" يحرص على وجود أمال وحنين مع أسرته طوال الوقت كأنه أباهم.
أما الفيلم الهندي؛ فيجتمع عليه كل أفراد العمارة في بيت "شجن"، وقهوة العصر لا تحلو إلا في الباحة معهم جميعا، ومع حكاوي صاحبة المنزل الحنون.
فرحة إحدى الشقق هي فرحة العمارة بأكملها، لدرجة أنه من الصعب أن تميز من صاحب الحفل بالتحديد، وحزن أحدهم كان أيضًا حزنًا في العمارة بالكامل.. مع كل ذكرى تجول في رأسها تنتهي بدمعة وابتسامة، أين هم الأن؟! توفيت الأم، وتزوجت البنات، أما شقة رقم 3؛ فلا تنسى أنهم أطلقوا على ابنتهم الكبرى اسم "شجن" حبًا فيها، كيف كانوا جميعًا كالإخوة، كأنه بيت لعائلة واحدة، بعد صلاة العصر من كل يوم يجلسون جميعًا على الدرج والباحات الصغيرة أمام كل شقة يحتسون الشاي، وفي المساء يلعبون معًا في مجموعات، عندما كانوا يلعبون لعبة الكروت الورقية (كوتشينة ـ الشايب) كان "هادي" يأخذ الشايب بدلا عن "شجن" حتى لا تخسر وتعاقب، أما إذا وقع مع "عماد" و"عصمت" فكانا يحاول كل منهما زجه للآخر حتى ينجو هو.
مع كل درجة تصعدها شجن تتذكر موقفًا يرسم على شفتيها ابتسامة وعلى وجنتيها دمعة، كيف كان شهر رمضان في ذاك البيت والمشاركة في عمل التزيين، لكن كان الطابق الثاني حيث "هادي" وشقة رقم 3 حزبًا، والطابق الثالث حيث أصحاب البيت وشقة "شجن" حزبًا آخر، وكان خير الحراس عماد وعصمت، حتى لا يسرق طابق أفكار الطابق الآخر، ورغم الحراسة الشديدة، تكون زينة الطابق الثاني مثل الطابق الثالث تمامًا، فكانوا بكل براءة يساعدون بعضهم بعضًا، لم يخلُ ذلك البيت من المرح والضحك والشجار والبكاء، إن استدعى الأمر لم يكن أبدًا صامتًا كصمته الآن، فقد توفيت صاحبة البيت، وتزوجت البنات والابن أيضًا، ورحلت شقة رقم 3 وأهل "هادي" أيضًا، وتوفي والد "شجن" وتزوج جميع إخوتها ولم يبق سوى أمهم في المنزل وعائلة الابن الكبير لصاحب البيت الكبير.
وصلت شجن بذاكرتها إلى يوم سفرها مع زوجها وتركها البيت لأول مرة في حياتها، كان ذلك أيضًا اليوم نفسه الذي ترك فيه "هادي" البيت، لقد تم استدعاؤه للجيش، فغادرا البيت معًا في اليوم نفسه، فترك ذلك أثرًا بليغًا في نفوس الأسرتين في آن واحد، وكان ذلك بداية انطفاء شمعات البيت الكبير.
التعليقات