يدرك القاصي والداني قيمة الدراما كسلاح مؤثر فى إدارة وتوجيه الشعوب، وهذا ما تنتهجه الدول العظمى على مر العصور، فهى لم ولن تنقطع عن بث أفكارها إلى مواطنيها وإلى العالم أجمع عبر الدراما بكل أشكالها، وقد شاهدنا وما زلنا نشاهد كيف تُصَدِر أمريكا إلى العالم أجمع أنها صاحبة القوة الخارقة، وأنها التى لا تقهر، وأنها المدافعة عن الحريات حول العالم، وأنها الأولى فى اختراق الفضاء والتطور العلمى، وكل ما تستطيع احتلال الصدارة فيه عبر الدراما، ولم يتوقف الأمر على دول تستغل الدراما فى تحقيق أهداف كثيرة وإنما وصل إلى شركات كبرى مَوَلت العديد من الأفلام السينمائية لترويج منتجاتها من سيارات وأجهزة وأسلحة وحتى الأطعمة.
ذلك لأن الأمر ببساطة يعود إلى سحر الدراما وتوغلها إلى العقول والقلوب وخاصة إذا كانت تُقدِم قصصًا مشوقة ومثيرة وأن يكون تقديم الأفكار والأطروحات داخل العمل بشكل احترافى غير مباشر والأفضل ألا يُعلن عنه من قريب أو بعيد، على سبيل المثال سلسلة مطاعم عالمية أو ماركة سيارات شهيرة يتم تواجدها داخل العمل لتخدم الخط الدرامى، البطل جائع جدًا ويركب سيارته ذات الماركة التى نلمحها ببساطة وبدون تركيز ويتوجه إلى أقرب مطعم نشاهد اسمه على اللافتة لحظة دخوله ليأكل ويتلذذ بروعة الطعام ثم يرحل فى هدوء، تلك رسالة غير مباشرة تستقر فى اللاوعى لدى المتلقى فإذا رَغِبَ المواطن العادى فى تناول طعامه وكان أمامه أكثر من اختيار ذهب بشكل لا إرادى إلى ذلك المطعم الذى تلذذ البطل المفضل لديه بتناول طعامه فيه، أو إذا ذهب إلى متجر سيارات ليشترى سيارة فسوف ينتقى تلك التى شاهد بطله يقودها فى سهولة ويغامر بها، إننا بشكل لا إرادى وعن طريق الانتقال نضع أنفسنا مكان أبطالنا، حينما كنتُ أشاهد فيلم "النمر الأسود" وكيف كانت قصة صعود البطل محمد حسن فى الملاكمة وبعد نهاية الفيلم أبحث عن أقرب "مخدة" لأصنع منها ملاكم أنهال عليه بضرباتى الموجعة وكأنى البطل "محمد حسن"، وبالطبع غيرها الكثير من البطولات التى نشاهدها فى الدراما ونتمنى لو أننا مكان البطل، هى حالة لا إرادية عامة، حالة من توحد المتلقى مع البطل فيسير كما يسير، ويلبس كما يلبس، ويتحدث كما يتحدث، بل ويعتنق أفكاره، وكل هذا غير مدرك بنسبة كبيرة جدًا.
وكثيرٌ من قادة الشعوب يدركون تأثير ذلك ويدعمونه معنويًا وماديًا خصوصًا فى المراحل الانتقالية للشعوب.
وقد تحدث ذات يوم فى أحد خطاباته الرئيس عبد الفتاح السيسى فى حضور عدد غفير من الصفوة فى مؤتمر مهم فى تلك المرحلة الانتقالية للبلاد، وقد اختص بحديثه فى هذه الكلمات الفنان أحمد السقا والفنانة يسرا، حينما توجه إليهم، كنموذج، بأن ما يقدمونه سوف يُسئلون عنه ويحاسبون عليه، والرسالة هنا كانت موجهة إلى الوسط الفنى عامة بأن فى أعناقهم رسائل يجب تأديتها على الوجه الأكمل، لكن الأمر قديمًا وحديثًا وفى أى بقعة فى العالم لا يسير هكذا بمجرد كلمات توجيه فى مؤتمر جماهيرى، إنما هو أكبر وأعمق من ذلك بمراحل، إنه من الأهمية بأن تُشكل له وزارة كاملة أو هيئة مستقلة يعمل فيها أكثر المتخصصين حرفية وكفاءة، فالمعيار الأساسى للنجاح فى أى مكان هو اختيار الكفاءات وقد سقط من تخطى الكفاءة وبحث عن الولاء والطاعة فقط.
وإذا انتقلنا عبر الزمن إلى مرحلة انتقالية من المراحل المهمة التى مرت على مصر، لشاهدنا الرئيس جمال عبدالناصر يتعامل مع الدراما كسلاح من أهم الأسلحة التى تخدم النظام خاصة والبلاد عامة فى تلك المرحلة، فكان عليهم فى هذا التوقيت اختيار الفنان الموهوب والمحبوب واختيار القالب الدرامى الأنسب وتوفير الدعم والإمكانيات المادية واللوجستية الكاملة، وأتت الصدفة بموقف غفور كإشارة توحى للزعيم جمال عبدالناصر باسم الشخص المطلوب وذلك حينما كان فى دولة المغرب ويسير فى رفقة الملك وإذا بمواطن مغربى يطلب من الرئيس عبد الناصر أن يستمع منه إلى كلمة سريعة.. فيطلب منه الاقتراب لينصت له فإذا بالرجل يطلب من الزعيم جمال عبدالناصر أن يوصل سلامه إلى اسماعيل ياسين..!! ويضحك عبدالناصر ويعده بتوصيل السلام، وبذلك يترسخ اسم اسماعيل ياسين فى ذاكرة الزعيم.
وأقول يترسخ لأنه كان فى الذاكرة من قبل، ولم لا وهو الفنان الأكثر شعبية فى تلك الفترة التى تكونت فيها حركة الضباط الأحرار وبدأت أفكارها تتجسد، فطبيعى بالنسبة لضباط يفكرون فى مصير أمة أن تكون من بين أفكارهم اختيار فنان عليه اتفاق جماهيرى ليكون هو الوسيلة التى تُبث من خلاله كافة الأفكار كى تصل إلى الجماهير فى سهولة ويسر، إنه اسماعيل ياسين.
لو عُدنا قبل ثورة يوليو 1952 عدة سنوات لنبحث فى سجلات هذا الفنان لوجدناه متربعا على عرش النجومية بعدد كبير جدًا من الأفلام، ففى عام 1948 كان له 15 فيلمًا وفى عام 1949 كان له 19 فيلمًا و16 فيلمًا فى عام 1950 وفى العام التالى 13 فيلما وفى العام الذى قامت فيه ثورة يوليو كان له 16 فيلمًا، وفنان يعمل ليل نهار لدرجة أن يكون له فيلم كل شهر أو أقل من الشهر هو الفنان المطلوب بالفعل، إنه الفنان "إسماعيل ياسين" وكان القالب الدرامى المناسب هو القالب الأكثر شعبية فى مجتمعنا وهو القالب الكوميدى ومن هنا أتت سلسلة أفلام إسماعيل ياسين، وما أن استقرت الأمور لدى الضباط الأحرار وبدأت مرحلة البناء حتى كانت الرسالة الموجهة منهم كقيادة سياسية متمثلة فى الرئيس جمال عبدالناصر ومجموعة الضباط الأحرار إلى صُناع سلسلة الأفلام المطلوبة تتلخص فى تبسيط فكرة الجندية وضرورتها وأنها واجب وطنى وأن الجيش بمختلف أسلحته هو مصنع الرجال حيث نبدأ مع البطل فى حياته العادية وهو ضعيف أو متردد أو جبان ثم يلتحق بالجيش وخلال الكثير من المواقف الكوميدية والقصص العاطفية التى تحمل الكثير من الشجن يخرج من الجيش بعد انتهاء مدة الخدمة وقد أصبح شخص آخر هو بطل بكل المقاييس، مغوار يتحدى الصعاب، وعلى الخط الموازى ينتصر فى قصته العاطفية ويرتبط بالفتاة التى يحبها وينتصر على غريمه الذى كان بنسبة كبيرة محمود المليجى أو رياض القصبجى، ومن ضمن الرسائل الموجهة إلى صُناع سلسلة أفلام اسماعيل ياسين فى أسلحة الجيش المختلفة أن تصل رسالة إلى العدو وإلى كل مَن يراقب تطور الأوضاع فى البلاد فى تلك المرحلة الانتقالية بأننا أصبح لدينا المعدات القتالية التى تناسب دولة تستطيع الدفاع عن أراضيها ورد العدوان فى أى وقت وذلك كما شاهدنا فى فيلم "إسماعيل ياسين فى الأسطول" أو فى البحرية أو فى الطيران فكانت الدولة توفر لفريق العمل من الفنانين كافة الوسائل والمعدات حتى إنهم فى الأسطول خرجت القطع الحربية وقامت بمناورة حربية كاملة تم تصويرها ضمن تفاصيل الفيلم. ونجحت سلسلة أفلام إسماعيل ياسين فى أسلحة الجيش وحصدت إعجاب الجماهير لأنها قُدِمَت بحرفية عالية ولم تقدم الرسالة المباشرة التى قد تأتى بنتائج عكسية، ولن يفوتنا فى عجالة أن نذكرها وهى التى بدأت فى عام 1955 بفيلم إسماعيل ياسين فى الجيش، ثم توالت السلسلة بعد هذا النجاح الذى تحقق فى الفيلم الأول فكان فيلم إسماعيل ياسين فى البوليس عام 56 وفى العام التالى إسماعيل ياسين فى الأسطول وفى عام 58 فيلم إسماعيل ياسين بوليس حربى أما فى عام 59 فكان فيلم البوليس السرى وفيلم إسماعيل ياسين فى الطيران.
الأمر أكبر وأعمق من أن يكون جملة عابرة فى أحد المؤتمرات ولا يجب أيضًا أن يكون تجربة تقوم بها جهة معينة كى تنتج فيلمًا أو مسلسلًا تقدم أو تحشر فيه الأفكار بشكل مباشر وينتهى الأمر، يجب أن تُشكل هيئة أو إدارة وتتوافر لها كافة الإمكانيات لممارسة تفاصيل عمل إبداعى متكامل ودائم ومستمر، وأعنى بمتكامل هنا أن يتحرك فى مختلف الجهات وعلى كافة الأصعدة الفكرية التى تساند الدولة فى استمراريتها، فلم تكف أمريكا عن إنتاج الأعمال الفنية التى تصورها البطل الخارق رغم هيمنتها على العالم ولن تتوقف بدعوى أنها حققت الهدف، وسوف تستمر عبر الكثير من الأفكار التى تناسب كل جيل، الاستمرارية مطلوبة لاستمرار تجدد الأجيال، مطلوب فقط أفكار أو قوالب جديدة تناسبهم وتناسب أفكارهم وطريقة تناولهم للقضايا المختلفة.
ما أحوجنا فى مصرنا الجديدة إلى مثل هذه الهيئة المستقلة كى تنتقى الأفكار وتختار الأعمال الأدبية وتُقيم السيناريوهات المطروحة وتوجه الكتاب إلى أفكار بعينها وتقدم الأفكار والمبادئ التى يجب بثها فى العمل وتتناقش حول كيفية بثها بشكل غير مباشر وأى القوالب يناسبها، وغريب أن تُترك الساحة الفنية لشركة أو أكثر يتم تدعيمها بأى شكل كى تنتج أحد الأعمال الفنية المباشرة والموجهة بسذاجة إلى الجمهور وذلك من بين عشرات الأعمال الهابطة التى تقدمها ونكتفى بأن نقول هناك عمل متميز تم تقديمه !! أرغب أن تكون الأعمال المتميزة مستمرة متشعبة تغطى كافة مناحى الحياة، وأؤكد للمرة الألف أن تكون أعمال غير مباشرة غير صريحة وأن تتوافر لها الميزانيات المناسبة ولم لا وهى من أهم الأسلحة التى يجب أن تتوافر لها الاعتمادات المالية والدعم الكامل، فنحن بصدد سلاح يدعم ويكوِّن ويشكل فكر و وجدان دولة بحجم مصر بل والمجتمع العربى والإفريقي والعالمى إن أحسنا وأتقنا الصنع.
التعليقات