ماذا لو شككت في بعضٍ مما لديك؟ لن يحدث شئ. فقط ربما تنتهي إلى بعض اليقين لتتخلص من هذا الشك. ولكن ماذا لو اعتقدت أنك تملك اليقين المطلق فيما لديك من أفكار؟ حتما ستنتهي إلى الغرق في دومات من الوهم.
هذه الحقيقة التيعبَّر عنها الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكونفي ثنايا اكتشافه لما أسماه "أوهام العقل البشري"، والتي وجدها أكبر من مجرد وهم،فقد اكتشف أنَّ الوهم عادة عقلية بشرية راسخة تنشب أظافرها في أغلب ما نتصوره عن الأشياء والعالم من حولنا.
ويبلغ الوهم منتهاه حين تقودنا عقولنا وعاداتنا في التفكير إلى إفتراض أنَّ معتقداتنا الفردية وما اكتسبناه من المجتمع الذي نعيش فيه هى أشياء تنطبق علي الكون بأسره كما يقول بيكون(1561 – 1626م) الذي يعد واحدًا من قادة الثورة الفكرية التي قامت في وجه طرق التفكير القديمة،والمبشر الرئيسيببزوغ فجر المنهج العلمي في التفكير والبحث، وخلال ذلك أورد مجموعة الأوهام التي تكبل عقل البشر، فأطلق على إحداها مسمي (أوهام القبيلة)، وهو درب من الوهم يجعل كلاً منَّا يظن أنَّ ماينتمي اليه هو ذاته دينًا وعرقًا ولغةً وفكرًا ومعتقدًا هو المفضل حصريًا علي ما يعتنقه غيره من بني البشر ممن هم خارج هذا الدوائر.
أيضًا فإنَّ أغلب الناس بطبيعتهم لديهم استعداد لإن يعتقدوا في صواب ما يملكون من أفكار، وكذا في صواب ما يرغبون في تحقيقه ويتطلعون إلى نواله، فيتعجلون الحكم علي الأشياء، وحين يتبنون رأيًا ما يعتقدون عن يقين في صحته، ولاتركز عقولهم إلا علي الدليل المؤيد لهذا الرأي، ويهملون ما عداه من أفكار.
وقد فاجأ الفيلسوف الألماني شوبنهاورالأوساط الفكرية حين خرج عليها بكتابه (العالم إرادة وتمثلاً)، والذي أكد فيه أنَّ البشر يعيشون منذ الأزل خرافة كبري جعلتهم يعتقدون أنَّ العقل وحده هو مايُحرك الإنسان، ولكن شوبنهاور يرى أن تلك خرافة كبرى، فهناك شئ أخر أقل تعقلاً وأشد اندفاعًا هو ما يحركنا، هذا الشئ هو الإرادة، والإرادة بطبيعتها شهوانية مندفعة متمردة هوجاء، تريد فقط أن تشبع رغباتها بأي وسيلة، وحين تقرر أو ترغب ما علي الجسد أو العقل إلا أن يطيعا في كثير الأحوال، وبدلا من أن يلجمها العقل بحكمته وترويه، يتجه العقل خلافًا لوظيفته تلك إلي توليد المبررات التي تبرر إشباع رغبات الإرادة.
خذ مثالاً الموظف الذي يتقاضي رشوة،لو إطلعنا على مايحدّث به نفسه أثناء ارتكاب هذا الفعل، سنجده يحدثهاعن ضيق الحال، وكثرة الالتزامات، وضعف الراتب.. وغير ذلك من المبررات أو لنقل الأوهام الواهية التي يتعاطى من خلالها العقل مسكنات ومهدئات اسكات الضمير، ليتكفل عنه عقله بتوليد المبررات التي تجعله ينصاع لإرادته المندفعة نحو هذا الفعل.
ومثله تمامًا سيفعل الطالب الذي يغش في الامتحانات، سيحدث نفسه عن ظروفه الصعبة التي مر بها ومنعته من المذاكرة، والتي لولاها لما اتجه الي هذا، وسينطبق كذلك على كل الأفعال الإجرامية وربما الخطايا التي يرتكبها كمٌ كبيرٌ من بني البشر، ولتنظر للبشر من حولك؛ ستجد أشدهم شرًا يجد لنفسه الأعذار والمبررات الأخلاقية لما يقوم به، بل أحيانا مايرى ما يقوم به هو عين الصواب.
وفي رواية (العيب) للكاتب الكبير يوسف أدريس تبدأ القصة بموظفة تلتحق بعمل ما، فتجد مجموعة من الموظفين يحاولون جرها إلي إنحرافاتهم التي يمارسونها، فترفض في بادئ الأمر، ومع تصاعد الأحداث تصبح مثلهم، معهم ومنهم، لنجدها فى ختام الرواية هي من يمارس الغواية على الأخرين ودعوة القادمين الجدد إلي ارتكاب الخطيئة.
ويذكر الفنان القدير الراحل نور الشريف في حوار له كيف كان الممثلون في الأفلام القديمة يؤدون أدوار الشر بشكل مبالغ فيه، حيث يبدون ملامح الشر على وجههم بشكل فجّ، في حين أن أيا من مرتكبي الشر يعتقد وهو يرتكبه أنه يفعل الخير المبين، ما جعل أكاديميات الفنون يلقنون طلبة التمثيل أنَّ المنطق يستوجب أن يكون الشخص الذي يرتكب الشر غالبًا ما يكون متصالحًا مع نفسه بسبب الأوهام العديدة التي يمده بها عقله.
وبعد ما يقرب من ثمانية عقود من التعرض لإعلام مشوب الدعاية أو دعاية مشوبة بالإعلام صرنا أيضًا نتعامل مع الأشياء والبشر من خلال صور وقوالب نمطية معلبة وجاهزة. فحين نقابل إنسانًالا نفكر فيه لشخصه، بل نسقط عليه كل الصفات التي نخزنها نحن في عقولنا بشأن جماعته التي ينتمي إليها، وديانته، ومذهبه، وأحيانًا لون جلده وعينيه وشعره. وبعد أن اختفى التمييز العنصري والعرقي توارى الأمر وصار داخل نفوسنا، لا نبوح به رغم أنه يرتجف في عقولنا، نوظفه في أفكارنا، وإذا سُئلنا عن أفكارنا أو "أوهامنا" تلك، فسوف نسارع إلى الكذب ونقول أننا لا نقيم لهذه الأشياء اعتبارًا.
ولو إطلعنا على ما تبثه وسائل الإعلام والثقافة والتعليم في كل بلد من البلدان سنجدها بشكل لا شعوري تغذي لدي مواطنيها الإحساس بأفضلية هذه الدولة، وأنها مهد الحضارة، ومركز الثقافة فى العالم، وعلى المواطن أن يفخر بأنَّه يحمل جنسية هذا الوطن. صحيح حب الوطن شئ عظيم، وتغذية هذا الحب أمرٌ عظيم أيضًا، ولكن الأمر صار يتعدى فكرة الارتباط بالوطن إلي تغذية نزعة التميز والأفضلية والاستعلاء أحيانًا على سائر البلدان والأمم وهي فكرة عرقية بالأساس، وهو أيضًا درب من الوهمالذي تغذيه الثقافة اليومية، فالدولة الحديثة فكرة لم تتعد عمرها أربعة قرون في أفضل التقديرات، حيث نشأت بعد صلح وستفاليا 1648م بهدف إنهاء الحروب بين ممالك أوروبا برسم حدود نهائية واضحة لتلك الممالك وتحويلها إلي دول، أى أنها فكرة تفتق عنها ذهن البشر حديثًا لإنهاء الصراعات فيما بينهم، فإذا بها تتحول بالأمس واليوم إلى منبع لتلك الصراعات مرة أخري.
إنًّ عقلاً يحمل كل هذا القدر هذه الأوهام حتمًا لن يكون موضوعيًا في أحكامه علي الكثير من الأمور، ولكنه سيكون متحيزًا تخيم عليه سُحب الانفعال والتعصب لما ينتمي إليه من أفكار، ذلك التعصب الأعمى الذي أشعل وما زال يشعل قدرًا ليس بالهين من الصراعات الناشبة بين البشر.
وفي عبارة متداولة على وسائل التواصل منسوبة لزياد رحباني يقول: "بعد 5 دقائق من ولادتك سيقررون اسمك وجنسيتك ودينك وطائفتك، وستقضي طول حياتك تقاتل وتدافع بغباء عن أشياء لم تخترها". تنتهي العبارة ولا ينتهي الوهم الذي يسلبنا إرادة التفكير المنطقي ويحولنا إلى مهووسيين بتحقيق أشياء بلا معنى أو ذات معنى مشوه، ونصير كسيزيف يحمل حجرًا فوق كتفه ويصعد الجبل،وكلما ظنَّ أو توهمَ أنَّه وصل إلى قمة الجبل وقعت الصخرة من فوق ظهره إلى أسفل الجبل، ليعاود الكرَّة من جديد كما حكمت عليه الآلهة حسبما تقول الأسطورة.
لكل ذلك يرى العديد من المفكرين أنَّ العقلَ، خاصة الجمعي منه مخزن للكثير من الأوهام التي كانت وماتزال وقودًا لجبال وتلال من الخطايا، إذ تشن الحروب لوهم، ويُقتل الأطفال في وهم، وتطول قوائم اللاجئين والجوعى والمحرومين جراء الوهم، وتغتصب البلدان لوهم، وينتحر أناس لوهم، ويولد الحب بين المحبين في بعض لحظاتالوهم، ثم يخبو ويموت بين المحبين لبعض الوهم أيضًا. تملأ الكراهية القلوب لوهم، ويفرغ الدين من مضمونه وقيمه الرفيعة وغاياته العليا بسبب الوهم، يتحول العلم والتعليم إلى تجارة طمعًا في وهم، الاستعلاء والتمييز العنصري والعرقي والشعور بتفوق الذات كلها أشياء شيدت على أعمدة الوهم.
تفسد الأمم لوهم، وتصلح بنبذ الوهم، تموت المجتمعات بالوهم، يخنقها لإنه يحجب عنها ضوء الرشد والمنطق في الأشياء، فيصير الواقع عبثيًا فوق عبثيته. المجتمعات لا تحيا إلا بالحقيقة، فمن أحيا الحقيقة وأمات الوهم في العقول فكأنما أحيا البشر جميعًا، أحياهم حياة حقيقية واقعية رشيدة.
التعليقات