المعادى.. هذه الغابة من الأشجار المثمرة، هذه الباقة من الورود الملونة، هذه اللوحة من الأغصان المتعانقة فى محبة وحنان التى تستقر على قمتها وتغرد عصافير الجنة، هذا الحى الهادئ الصافى الذى يقع على الضفة الشرقية من نهر النيل ويتمتع بالسكينة والطمأنينة وعلى أرضه السلام وفى ناسه المسرة، له حكاية تاريخية، فصولها تبدأ بمن أنشأه وهو الخديو إسماعيل فى نهايات القرن التاسع عشر، وقد شيد فى عهده خط السكك الحديدية الممتد فيه، وكلف شومان ببناء أول محطة للطاقة الحرارية الشمسية بالعالم فى ضواحيه، ولم يتوقع الضابط الكندى ألكسندر آدامز، مؤسسه ومهندس التخطيط له، أن هذا الحى الراقى الذى يضم مدينته الصغيرة الحالمة المعادى ستصبح الاستثناء الفريد فى العاصمة الأكثر ازدحامًا فى الشرق.
ففى خضم الصخب الدائم والضجيج اليومى الملازم لشوارع وأحياء المحروسة، تبدو المعادى بطبيعتها البكر غارقة فى هدوء يثير الدهشة والعجب، كونها لا تبعد عن وسط القاهرة أكثر من عشرة كيلومترات جنوبًا إلا أنها لاتزال محتفظة برونقها وخصوصيتها فى إطار تلك الأصوات التى دعت قبل مائة عام لإنشاء حى سكنى متميز هربًا من الزحام الذى كان يتفاقم ويتراكم يومًا بعد يوم، وبالفعل بدأ المستثمرون فى شراء الأراضى المطلة على النهر الخالد وأسفرت عملية البيع عن حصول أسرة موصيرى، أحد زعماء الجالية اليهودية فى ذلك الوقت، على مساحات كبيرة من تقسيم المعادى بعد شرائها من شركة أراضى الدلتا التى أسستها الطبقة الأرستقراطية البريطانية فى مصر، وتم التخطيط لها كحى راقٍ على الطراز الإنجليزى من خلال الشوارع المستقيمة التى تنتهى بالميادين الدائرية.
وعلى جانبى الطريق الفيلات ذات الطابقين، وملحقة بها حدائق أمامية وخلفية عامرة بالزروع النادرة، ومع تزايد هجرة القاهريين إلى المعادى أنشأ المسيحيون كنيسة كاثوليكية إلى جانب وجود دير العذراء الأثرى على الكورنيش، والذى شهد رحلة العائلة المقدسة، واستقرت على بره كلية الطهارة مريم أم النور، كما شيد المسلمون أول مسجد بالمعادى عام 1939 افتتحه الملك فاروق الأول، وأُطلق عليه مسجد الفاروق، وكانت المعادى على موعد مع الحرب العالمية الثانية حين وصل إليها عام 1940 ما يقرب من 76 ألف جندى نيوزيلندى واستقروا فى معسكر ضخم بمنطقة سُميت وادى دجلة، وهى محمية طبيعية حتى الآن، وعلى الرغم من مرور السنوات ورحيل الأجانب عن مصر لايزال حى المعادى مفضلًا من قِبل الجاليات الأجنبية ويحوى 26 سفارة.
وقد سُميت المعادى بهذا الاسم لوجود معدية فيها لعبور النيل، وجدير بالذكر أنها كانت تخضع إداريًا لمحافظة الجيزة ناحية البساتين حتى نهاية الأربعينيات، وفى عصرنا الحديث أعلن المهندس كامل الوزير، وزير النقل، عن إنشاء ثلاثة محاور لربطها بالتجمعات العمرانية على جانبى الطريق، وواحد من المحاور الثلاثة التى يقصدها هو الجزائر، باعتبارها ستخدم سكان المعادى والبساتين، بينما يرى المعماريون ونشطاء أصدقاء البيئة أن المحور سيقلب حياة سكانها إلى جحيم وضوضاء وأخطار عديدة ستقضى على طابعها المتميز، كما خرجت جمعية محبى الأشجار عن صمتها لمساندة أصحاب المشاتل إلى جانب سكان المعادى الأصليين، والمطالبة بمراجعة مسار المحور أملًا فى التوصل إلى حلول بديلة تُغنى عن إفساد النسيج العمرانى والبعد التاريخى والعمق الثقافى للحى.
فالمنطقة التى من المقرر أن يمر بها المحور تضم عددًا هائلًا من المبانى التاريخية، وهذا يتعارض مع معايير الاستدامة العالمية لتصميم عمران المناطق السكانية القائمة، «مش عادى فى المعادى» أن تتعرض الضاحية الهادئة إلى هذا الكم من التلوث السمعى والبصرى، وهى المنطقة المتفردة بسمات معمارية واجتماعية وطبيعية جعلتها نموذجًا مثاليًا للعلاقة المتناسقة بين الماء والخضرة والوجه الحسن، أرجوكم أنقذوا المدينة الفاضلة، المعادى المثالية.
التعليقات