ذات يوم، كانت إحدى المسؤولات تزور مصنعًا فى بلاد الهند، وأثناء زيارتها الرسمية، لفت انتباهها عامل عجوز ينفرد بنفسه فى زاوية من زوايا المصنع، وكان العامل مبتسمًا ينشد الأغانى وهو يعمل، وتعلو محياه علامات السعادة والرضا، وكأنه يملك المصنع وليس مجرد عامل من بين آلاف العمال، فاقتربت منه المسؤولة، فإذا هو يجمع المسامير الدقيقة ويضعها فى علب خاصة، شأنه شأن بعض رفاقه بالقرب منه، فزاد هذا الأمر استغرابها، وقالت فى عقل بالها: ما الذى يميز هذا العامل عن غيره؟ ثم سألته: «ماذا تفعل أيها العامل!؟» فقال لها: «أنا أصنع طائرات يا سيدتي!». فقالت له باندهاش: «طائرات؟!».
فقال: «نعم طائرات، وما الغريب فى ذلك؟ هذه الطلبية التى أقوم بتحضيرها بمنتهى الدقة هى لشركة تصنيع طائرات، والطائرات التى تركبينها لا يمكن أن تُقلع دون هذه المسامير الصغيرة التى ترينها، إذًا أنا شريك فى صنع الطائرات». وأُعجبت المسؤولة برد العامل البسيط، وحكمته فى تفسير أهمية عمله الدقيق رغم بساطته، فهو يعرف قيمة وقامة ومقام ما يفعله، وهنا مربط الفرس؛ إن نظرتنا لأنفسنا هى التى تحدد قيمتنا فى الحياة، فهناك فرق كبير بين من يرى نفسه جامع المسامير فى علب، وبين من يرى نفسه شريكًا فى صنع الطائرات العملاقة. وهذه ليست مبالغة فى تقييم الذات، وإنما نظرة واعية لقيمة ما نفعله والنتائج المترتبة عليه؛ لأنه إن نظرنا لما نفعله بطريقة دونية، وكأنه تحصيل حاصل أو مجرد شيء عابر لا يؤثر ولا يتأثر، أُصبنا بالإحباط واليأس، وانعدمت عزيمتنا، وضاع الشغف، فلا نتقدم خطوة إلى الأمام.
لا يصح أن نقلل من شأن ما نفعله بحجة أن لا أحد يشعر بأهميتنا، لأن المعادلة تقول: إنه إن شعرنا بوجودنا وأهميته وتأثيره على غيرنا، انتقل هذا الشعور إلى غيرنا، وتجلى بقدرنا. فرق كبير بين من لا يرى من وظيفته إلا الأجر الذى يجنيه، وبين من يرى الأثر الذى يتركه فى نفوس الآخرين. تأمل معى أيها القارئ لهذه السطور واحكم بنفسك..
■ أنت لست مجرد كنّاس للطريق، أنت إنسان يُجمل وجه مدينة.
■ أنت لست مجرد نجار للأخشاب، أنت إنسان يحمى البيوت من السرقة، ويحافظ عليها من حرقة الشمس، وصقيع الهواء، وأتربة الريح.
■ أنت لست مجرد خياط للقماش، أنت إنسان يهب الناس لمسة أناقة.
■ أنت لست مجرد خطيب على المنبر، أنت إنسان تمهد طريق الناس إلى الله.
■ أنت لست مجرد مدرس للتلاميذ، أنت إنسان صانع لأجيال.
■ أنت لست مجرد مهندس وصانع جسور، أنت إنسان منشئ الوصل بين الناس والأماكن.
■ أنت لست مجرد طبيب بشرى، أنت إنسان مخفف آلام البشر.
■ أنت لست مجرد محامٍ للقضايا، أنت إنسان يبحث عن حقوق الناس.
■ أنت لست مجرد ضابط للأمن، أنت إنسان يحرس ويحمى البشر.
■ أنت لست مجرد مزارعًا بسيطًا، أنت إنسان تُطعم الملايين.
■ أنت لست مجرد كاتب للسطور، أنت إنسان تُحلل وتُفسر الأحوال لتنقل للقراء عبرةً يستفيدون منها.
■ وأنتِ يا سيدة المنزل، لستِ مجرد ربة أسرة، أنتِ أهم شخص فى العالم، أنتِ أول مُربِّ وأهم مُربِّ، فليس هناك صناعة أعظم من صناعة إنسان صالح متوازن.
فالذى لا يرى من عمله إلا الأجر الذى يتقاضاه فقط، هو إنسان أعمى البصر والبصيرة.
فلا أحد يستطيع أن يقلل شأنك ما لم تكن أنت تشعر بقلة الشأن فى داخلك فعلاً، ولا أحد يستطيع رفع قيمتك وقامتك ومقامك ما لم تكن تشعر بأهمية نفسك.
وفى النهاية، قُل لى: مَن أنت؟ وما هى قيمتك وقامتك ومقامك؟.
التعليقات