ظللت أنظر لها وهي مسجاة على الأرض أمامي وثرثرة قلبي تبعثر الهدوء الذي يعتليني، فكل شيء حدث فجأة وبسرعة لم يحتملها ذهني، مثلي مثل ذبابة أُطلقت في أجواء الفضاء الهائل وهي التي ما هامت إلا في جو الحجرة الضيق .. جرت الحوادث بسرعة رعناء كما تجري الأنهار بفيضان مفاجئ.
طرق الباب زائر بطريقة تبعث الفزع في النفس، لكنني شعرت بأن وراءه أمراً غير عادي، فشاع في نفسي شيء من الظلمة وعراني انقباض باكر قبل أن يلج الداخل علينا باب الحجرة التي كنا جلوساً على مائدتها.
هكذا كان حال أميرة، وما إن فُتح الباب انطلقت منه نحوي كالملسوعة من باب المنزل رأساً إلى الداخل، حيث حجرة المعيشة، وكان ذلك بعد الإفطار في شهر رمضان المبارك، وفي هذا التوقيت كان الإفطار على المائدة وكانت أميرة وأطفالها (بنتان وولد) لم ينتهوا من الإفطار بعد، ولكن بدخول نجوى توقف كل شيء ونهضوا جميعاً في فزع دون كلمات، فقط وجوه واجمة تنظر إلى نجوى التي سقطت على ركبتيها, مُتعبة إثر الهرولة والهرب تبكي وتتوسل أميرة وتتمتم في فزع وأنفاس متقطعة
(أغلقي الباب وأبلغي الشرطة باهر يلاحقني)
(أغلقي الباب وأبلغي الشرطة باهر يلاحقني)
ظلت أميرة في ذهول وصمت قطعه قرع قوي للباب وبصورة متواصلة، فالباب لم يكن يُقرع ولكن تضرب في أوصاله الطبول، وهنا تأكدت أميرة أن باهر يتعقب نجوى، فهنا أسرعت نحو هاتفها لتحدث زوج أختها مُنى ليأتي ويحل الأمر، ولكن علمت منها أنه ذهب إلى الصلاة، فمن عادته الذهاب مبكراً ليصلي المغرب في مسجد المدينة قبل أن تقام صلاة العشاء والتراويح، وهنا تعقدت الأمور بقدر لم تستطع معه أميرة سوى اللجوء إلى الشرطة.
دعني أخبرك أولاً عن نجوى تلك الفتاة العراقية ذات الخمسة عشر عاماً التي كانت تعيش مع أسرتها المكونة من أب وأم وشقيقين، أسرة صغيرة رقيقة الحال اضطر والدها إلى السفر بحثاً عن الرزق في بلد آخر، وظلت نجوى مع والدتها وأخويها.
كانت في الصف الأول الثانوي عندما تقدم باهر لخطبتها كانت تعترض على ذلك لإتمام دراستها، ولكن قرر الأهل تزويجها إلى باهر الرجل الثري كما ظنوا عنه، وكان يكبرها بثلاثة عشر عاماً وأقنعوها بأن من يكبرها هو الأمان والأنسب (سيدللك كطفلته ويحنو عليكِ كابنته).
وكان من السهل إقناع طفلة في هذا العمر بذلك الأمر. قدر لهما الله أن يزاولا في الحياة مهمة مشتركة كما يصنع الصانعون شقي المقص من الجائز بعد ذلك أن تفرق حادثة ما بين الشقين، فيجتهد الناس في أن ينقبوا لكل شق عن قرين، لكنهم قلما يجدونه إذا ألغينا من حساباتنا مشقة البحث والتنقيب.
نجوى نبتة صغيرة متسلقة لا يتأتى لها أن تنهض إلا معتمدة على سياج أو متشبثة بجذع شجرة. أما باهر فمندفع لا يتدبر العواقب فج الأفكار ضعيف العبارة سقيم الحجة له نزوات نسائية لم تنساها نجوى. عاشا سوياً سبع عشرة سنة في غرفة في بيت أمه ذي الأثاث القديم البالي، الخالي من أي جديد إلا ما جلبه أهل نجوى لها من مستلزمات أي عروس.
وكان البيت مكوناً من ثلاث غرف، غرفة لوالدته وغرفة لها هي وباهر وغرفة لابنيهما ثمرة حياتهما الزوجية, وغرفة معيشة بها صالون قديم قد ابتاعه أبيه لأمه منذ صباهم، ومطبخ من ذلك العهد أيضاً، ولا يحق لنجوى أن تجدد في أي شيء لابد أن تعيش على هذا الوضع بعد أن وعدها أن هذا الوضع مؤقتاً إلى أن ينتهي من بناء المنزل الذي سيهديها إياه.
وظل الوضع هكذا يختلق لها الأعذار وتسوقه كذبة إلى أخرى، لكن قطار العمر يغدو بسرعة لم تستطع نجوى معه فعل شيء غير الصمود وانتظار كارثة الاصطدام.
عندما فاض تنور نجوى وخيرته بين البيت أو الطلاق، أذعن باهر لرغبتها واشترى لها شقة كي يخمد ثورتها كقطرة الماء التي تُهدئ من غليان قدر، ولكن لم يرحلا مع الابنين إلى تلك الشقة ظل يؤجل الرحيل يوماً بعد يوم وشهراً يليه شهر، ثم قرر باهر مغادرة البلاد لتوتر الوضع داخل العراق، وقبل أن يغادر قال لها إنه ليس من الحكمة أن ترحلي مع الأولاد إلى المنزل الجديد فوافقته الرأي، لكن طال الانتظار وتكدست المشاكل بينهما وأصبحا كالفلك على وشك الغرق في عرض البحر تطلق إشارات استغاثة ولا مغيث فقررت نجوى الخلاص، لكن كان لباهر رأيٌ آخر فهاتف نجوى وطلب منها أن تلحق به حيث لا أمان في العراق، لكنها أخبرته أنها لن تبرح العراق إلا إذا طلقها وبعدها ستغادر العراق إلى حيث باهر حفاظاً على مستقبل الأولاد، وحتى يُهدئ باهر من روعها جعل صديقه يكتب لنجوى (أنت طالق) في رسالة هاتفية تلقتها نجوى في غبطة كمن ردت إليها الحياة، كانت حروف رسالة الخلاص كقطرات الماء التي تبلل شفاه تائهة في الصحراء تنصهر تحت شمسها المحرقة.
ذهبت نجوى إلى أحد الأئمة لتستشيره فأجاز لها الطلاق، وأشار عليها أن تلزم بيتها شهور العدة ففعلت ومن فورها، وبعد انتهاء شهور العدة تزوجت زواجاً غير مُعلن وغير موثق بجاسر ذلك الشاب الذي كان يعمل مهندساً زراعياً وكان قد تقدم لها سلفاً قبل باهر، لكن رفضه أهلها لرقة حاله.
أول لقاء له بها في صباها كان جالساً في إحدى المقاهي القريبة من المدرسة التي تلتحق بها نجوى فبات ينتظرها يومياً على المقهى نفسه وهي عائدة إلى البيت وسط زميلات لها لمستهن الأنوثة منذ عهدٍ قريب فحنت أجسامهن، وكانت نجوى أطولهن وأجملهن وأعلاهن صوتاً وأخفهن حركة وروحاً وأكثرهن طيشاً، وكن يمررن على مقربة منه يومياً ولكن لا يشعرن به.
نجوى في ثوبها المدرسي الأزرق بحزام مربوط من الوراء يضغط على خصرها بشدة فيزيد أنوثتها ثراء كانت أشبه بذكر الأوز بين القطيع العائد من البركة تتكلم وتضحك وتُقاطع وتُشير في وقت واحد، وخصلات شعرها البني تداعبها نسمة خفيفة مما يذيد وجهها نضارة وحرارة الشمس تزيده احمراراً.
في يوم رآها جاسر على غير موعد تمر من أمام المقهى نفسه الذي كان يجلس فيه منتظراً نجوى أثناء الدراسة قبل سنوات عدة ، فما كان منه إلا أن تعقبها، حيث منزلها وهدفه أن يعرف أين تسكن، لكنه فجأة وقف طرف الشارع حيث تسكن، ففي الشارع نفسه بل والمبنى نفسه قرين له، حيث بعد الطلاق عاشت نجوى في الشقة التي أهداها إياها باهر.
قرر جاسر في الحال زيارة صديقه وقد كان، وهنا اكتشف أن صديقه يسكن في الطابق العلوي لنجوى، فاستفسر عنها وعلم بطلاقها وجميع ظروفها فرتب بالاتفاق مع صديقه لقاء سريعاً معها. واتفقا أن تذهب إلى حيث باهر ولكن في مسكن منفصل وبعد فترة سيلحق بها جاسر.
وذهبت مع أولادها، حيث باهر ودون أن تخبره أنها تزوجت. كذب عليها وكذبت عليه.
أتت الشرطة واستفسرت عن الأمر وسبب هجوم باهر على بيت أميرة ومن ثم اعتقلت باهر على سبيل التحقيق. ووفرت لنجوى مسكناً مؤقتاً مع أولادها.
الغريب في الأمر أننا لا نستطع أن نعرف من الضحية؟ هل هو باهر الذي كذب على نجوى طوال الوقت، حيث ينقلها من كذبة إلى أخرى ومن وعد إلى أخر ونزواته النسائية التي تقطع منها كبد نجوى وختم كذبه بكذبة طلاقها وهو لم يفعل؟! أم نجوى التي كذبت على أميرة وأخبرتها أن باهر يلحق بها وهو لم يبرح مكانه بل لحق بها أبناؤها، وهي التي أيضاً اختارت أميرة بالذات لأنها تعرف أنها وحيدة ولن يوجد أمامها غير الشرطة، وهي التي أيضاً اختارت ذلك اليوم بالذات لأنه حسب اتفاقها مع باهر هو اليوم الذي سيطلقها فيه طلاقاً موثقاً بشرط أن يذهبا في صباح اليوم التالي وتتنازل عن الشقة التي في حوزتها له، لكن ولأن نجوى تخطط للحفاظ على كل شيء اختارت ذلك التوقيت حتى يتم طلاقها دون تنازل عن شيء، فقابلت الكذب بكذب، حتى تزوجت ولا نعرف ما إذا كان زواجاها صحيحاً أم باطلاً؟! ولا نعرف هل نلقي اللوم على أميرة التي لإبلاغها الشرطة فهي من وجهة نظرهم ساندت نجوى وسجنت رجلاً لتُنصر زوجته عليه وهي التي لم تفكر إلا في أولادها والخلاص من ذلك الموقف.
نسيّ الناس ما فعله باهر وما فعلته نجوى ولم يكن لهم حديثٌ إلا عن أميرة ألقت بها الحياة بين رحى باهر ونجوى. لا يوجد في هذه الدنيا عادل ولا راحم ولكن إن خلت منهما رقعة الأرض فلن تخلو منهما ساحة السماء.
أصبح المجرم بريئاً والبرئ مجرماً بل أصبح المجرم قاضي البرئ وصاحب الحق في معاقبته.
التعليقات