نحن أعداء أنفسنا... لا العالم
في خضم صخب الحياة وتقلباتها، يتسلل إلى أعماقنا وهمٌ راسخ: أن مصدر الألم يأتينا من الخارج، وأن ما يعصف بسلامنا الداخلي إنما هو نتاج ظروف قاهرة وأشخاص مؤذين. لكن الحقيقة التي تتجلى بعمق عند التأمل هي أكثر دقة وأشد جوهرية: ليس ما يقع في محيطنا هو سبب معاناتنا، بل استجابتنا الداخلية له هي المحرك الأساسي للألم.
تكشف أبحاث علم النفس المعرفي السلوكي، وتحديداً نموذج Ellis ABC، عن حقيقة علمية مثبتة: الأحداث لا تصنع مشاعرنا بشكل مباشر، بل تمر عبر مصفاة معتقداتنا وتفسيراتنا الشخصية ، لتنتج بعدها العواقب العاطفية والسلوكية. هذه العملية النفسية هي التي تحول كلمة عابرة إلى جرح عميق، وموقفاً بسيطاً إلى أزمة مستعصية.
وقد أثبتت دراسات علم الأعصاب الحديثة التي قادها باحثون مرموقون مثل "شون أكور" و"ريك هانسن" أن العوامل الخارجية لا تسهم إلا بنسبة محدودة (حوالي 10%) في تشكيل مشاعرنا المستمرة، بينما تنبع النسبة المتبقية (90%) من عوامل داخلية: أنماط تفكيرنا، تفسيراتنا للأحداث، وقدرتنا على تنظيم استجاباتنا العاطفية.
إن ما يزيد معاناتنا ليس حجم المصيبة، بل مدى تضخيمنا لها. وما يغرقنا في القلق ليس واقعنا الحالي، بل استشرافنا المشوب بالخوف لمستقبل لم يأتِ بعد. وما يفقدنا توازننا النفسي ليست الكلمات الجارحة بحد ذاتها، بل هشاشة بنيتنا الداخلية أمام تلك الكلمات.
نحن لا نتألم بسبب فقدان الأشياء، بل بسبب تعلقنا المفرط بها. ولا نعاني من الخيبة بسبب النتائج، بل بسبب توقعاتنا غير الواقعية. وبهذا المنظور، يصبح واضحاً أن العدو الحقيقي يقبع في داخلنا: في نظرتنا المشوهة للذات، وفي عجزنا عن تنظيم انفعالاتنا، وفي ضعف تدريبنا على التريث والتأمل.
فالإنسان، في جوهر هويته، ليس انعكاساً لما يفعله به الآخرون، بل هو ثمرة ما يختار أن يفعله بنفسه في مواجهة تحديات الحياة - سواء اختار أن يكون سيد استجاباته، أو أسيراً لردود أفعاله.
التعليقات