ذات نهار استيقظ البحر سعيدا تملأه الحماسة على غير العادة. أخذ نفسا عميقا وتأمل الحياة من حوله وقرر أن يكون يومه مختلفا بحق. جمع أمواجه وأسماكه واصطفت رماله أمامه في استكانة وترقب لما يقول. حلقت طيور النورس في دهشة وحذر. كان الجميع مندهشا من حماسته المفاجئة وكل مفردات وجوده طوع يديه محبة جاهزة مستعدة لتنفيذ ما يمليه عليها.
احتوى الجميع بين ذراعيه قائلا إن اليوم يومه وهو مميز ويتوقع حضور الكثيرين لذا فعليهم جميعا التزين والظهور في أبهى حلة. أوصى الأمواج بالاستكانة والسلامة وطلب منها تهيئة صفحة رائقة تأخذ بألباب من يراها وتشجيع من يريد غوض غمارها بلا خوف. أما الأسماك فمهمتها أن تصبح سهلة المنال لمن يفضل الصيد ويتمتع به. والرمال البيضاء مراد الجميع كبارا وصغارا فعليها يجلسون للتنزه والاستجمام ومنها يبنى الأطفال قصورا وقلاعا فكان عليها الاستعداد والترحيب.
سرعان ما بدأت الحماسة تهب في أوصال الجميع بما لمسوه من فرحته. تهيأ المكان بأفضل ما فيه وسارع كل بتجهيز كل إمكاناته لتكون سهلة المنال ومبعث فرح وسرور للضيوف المرتقبين حتى أن الأصداف والقواقع قررت أن تكون ظاهرة حتى يتسنى للأطفال جمعها والتباهي بها.
وجلس البحر منتظرا قدوم محبيه. ومرت الساعات واحدة تلو الأخرى. علت الشمس في السماء ثم انتصفت ولم يظهر أحد. تبادل الجميع نظرات القلق فلم يكن الأمر أبدا هكذا. يتوافد الناس كل يوم فما بالهم يغيبون في يوم كهذا؟! تحول وجه البحر من السعادة المرتقبة لقلق حذر وتبدل يقينه برؤية من يحب لعلامات إحباط وحزن. همت الأمواج بسؤال الآخرين لكنها آثرت الصمت خشية أن تضايقه. اكتفت بزفرات متلاطمة هزت سطح المياه الرائقة التي التزمت بها منذ الصباح. طلت عليهم الشمس من علٍ متعجبة فحرارتها معتدلة اليوم واشترك معها الهواء العليل في منح المكان أجواء مغرية بالجلوس والاستمتع بيوم جميل. هزت النوارس أكتافها وأشاحت بوجهها بعيدا شاكرة الله أن أحدا لا يرى ملامحها المحبطة.
انقضى اليوم المميز ولم يظهر أحد. شعر الجميع بالأسى من أجل البحر. لأول مرة انتظر هذا اليوم المميز بفارغ الصبر ولأول مرة لم يقترب أحد من الشاطيء! أين ذهب الجميع؟ يأتون كل يوم بلا انقطاع فكيف يغيبون عنه في مثل هذا اليوم؟! هذا يومه المميز الذي ترقب الاحتفال به مع من يحب لكن لم يحضر أحد. جعلوا لكل شيء يوما عالميا مميزا للاحتفال فلماذا تجاهلوه! هناك يوم عالمي للمرأة وللطفل وللتعليم وللغات حتى الأمراض النادرة يحتفل بها الناس ويولونها اهتماما فلماذا لم يفكر أحد فيه؟!
هناك عيد الأم وللطفل وللعمال ولكل بلد عيد وطني يحتفل الناس فيه ويكرمون فيه رموزهم فلماذا لم يفكر أحد في البحر؟ الأنه دائم العطاء ومتواجد بلا انقطاع سرمدي بلا نهاية ولا بداية؟ الأنه عطاء محدود لم يغضب يوما ولم يحرم أحدا حتى في نوبات غضبه هناك دوما جزءا منه رائق هاديء يستطيع الناس الركون إليه في بقعة جغرافية أخرى.
جلس البحر كعادته يفكر كيف يسعد من حوله وكيف يعطي وماذا يمكنه تقديمه للناس ليحظوا بسعادة في قربه حتى في يوم كان يستوجب الاحتفاء به لم يأخذ حتى مجرد التفكير فيه. انقضى اليوم كأن شيئا لم يكن وغدا يوم جديد ربما يتوافد عليه الناس كعادتهم وقتما يريدون وحيثما يرغبون. هم على يقين بأنه حاضر بسخاء هو وكل مفردات السعادة من حوله. لا يخالجهم شك في كرمه ورحابة صدره. يعرفون أنه لن يعبأ بتكريم ولا باهتمام فلم يعتادوا إلا الأخذ منه ولم يفكروا يوما في إعطائه أي شيء.
في اليوم التالي قرر البحر أن يرجع لطبيعته وأن يتوقف عن مقارنة نفسه بكل ما يحتفي الناس به. لن يكون هناك يوم عالمي للاحتفال به ولن يتذكره الناس بكلمة شكر حتى. عليه أن يتخلى عن الفكرة الحمقاء التي سولت له انتظار معاملة خاصة. مكانه ثابت لا يتغير وهم اعتادوا على ذلك فهو أكبر من أن يختفي وأرحب من أن يضيق عليهم. لم يحدث مطلقا أن اختفى بحر أو ذهب شخص فوجده قد غير موقعه أو قرر الثورة فحتى أمواجه تتلاطم ثم تهدأ كأن شيئا لم يكن!
التعليقات