مرت أيام بعد واحدة من أصعب الحوادث وقعًا على قلوبنا كبشر، وهو اكتشاف ما وراء سجل صيدنايا، أو ما أسفله إذا أردنا أن نكون أكثر دقة. يحتفل الناس بالنصر والحرية وانتهاء المأساة، وفرحة الأهالي بسماعهم خبر أن أبناءهم على قيد الحياة. ولكن، هل هذا كل ما يقع على عاتقنا؟ هل هذا ما يرضينا؟
الرضا واجب علينا بكل ما حدث، وبكل ما يحدث، وبكل ما سيحدث. ولكن، هل يتعارض الرضا مع الشعور بالوخز في قلوبنا كلما تذكرنا أننا كنا نسير في حياتنا بشكل طبيعي، في حين كان هؤلاء يسكنون جوف الأرض؟ في الليالي الحارة قبل الباردة، كانوا أسفل الأرض التي نطأها بأقدامنا؛ في الأيام العادية، وفي الأيام المباركة من صيام وأعياد، وفي أشهر عادية وأشهر حُرم.
هؤلاء لم يُسلب منهم أيام وشهور وسنوات، أو حتى عمر كامل فقط، بل سُلبت منهم إنسانيتهم بأبشع الطرق. فوفقًا لما صرّح به بعض الناجين، هناك من أُجبر على حياة الكلاب بكل تفاصيلها لسنوات طويلة، وهناك من تعرّض للضرب والتعذيب بشكل دوري. ومع تنوع الوسائل، كانت النتيجة واحدة: فقدان ماهيتهم كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات؛ لهم قلب يشعر ويتألم مثل جسدهم؛ لهم كرامة وعزة نفس، وإن تم هتكها بالكامل.
الاعتياد أقوى طرق التأقلم. فمن اعتاد الألم خاف الراحة، ومن اعتاد الظلم هاب العدل، ومن اعتاد حياة الحيوانات كره حياة بني آدم؛ التي تذكره بأنه قد حُرم منها، وإن كان ليوم واحد.
وكما جرت العادة، وليس بالأصح عدلًا، يجب النظر إلى حالة من تعرّض للظلم قبل وقوعه. هل كان معتادًا أم لا؟ فإن نظرنا، لوجدنا الضحايا هم أهل سوريا، الشعب الذي لطالما عاش حياة غنية مترفة، عُرف عنهم تمسكهم بالعزة والكرامة كأغلى ما يملكون. فما أصعب ما وقع عليهم من نكبة عظمى!
إذًا، فهؤلاء لا يحتاجون منا مباركة، لأنه ببساطة لم تنتهِ مأساتهم بعد. فهم يعيشون الآن مأساة أكبر مما كانت داخل السجون: تقبّل الحياة الآدمية من جديد، وتقبّل كل ما حدث لهم ليس بالأمر الهين الذي يقدرون عليه وحدهم. بل يحتاجون دعمًا نفسيًا مكثفًا.
ونعلم أن الوقت وقت حرب، وليس من المنطقي أن نجد اهتمامًا من قادة البلاد بالحالة النفسية للناجين، أو حتى بوجع المفقودين. ولكن، هذا يقع على كل من يهمه الأمر، وكل من يسعى لمنح حقوق الإنسان. فهناك الآن، على أرض سوريا، من هم في أشد الحاجة إلى من يعطيهم الأمل، بل فرصة للحياة من جديد.
وهذا ليس بالأمر الصعب، فحياتهم لم تنتهِ بعد. هناك الكثير من الأمثلة العظيمة التي كانت مجرد ناجٍ من مأساة، مثل الدكتور فيكتور فرانكلن، مؤسس "العلاج بالمعنى"، وهو أحد أشكال العلاج النفسي الوجودي، الذي توصل إليه بعد نجاته من الهولوكوست، بتجربة مريرة قضاها في معسكرات الاعتقال النازية.
فمع الرضا والأمل، يجب أن نأخذ بالأسباب العملية لتحقيق ما يحتاج إليه ضحايا صيدنايا.
التعليقات