واحدة من أسوأ مميزات عصرنا الحاضر هي ال Social media.
جهاز مخابرات في يديك، ليل ونهار تدخل بيوت الناس وتضطلع على صورهم وحياتهم الشخصية .. ترى ما يودون نشره وتجتهد بجهاز جوستافو لتعرف باقي التفاصيل الخفية.
كل شيء في دنيانا لو زاد عن حده ينقلب لضده.
أتحدث عن وجوه غير حقيقية تخرج من وراء فلتر الموبايل، تزييف للوشوش، تجميل غير حقيقي لنفوس خَرِبة أصبحت في صراع ومنافسة حقيقية مع كل من حولهم.
العالم الافتراضي حوّل الإنسان لمسخ يتنافس في الخيبات.
يستيقظ أحدهم كل يوم ليس للسعي أو العمل أو متابعة الأبناء أو القيام بشؤون البيت .. بل ليلحق بآخر الأنباء، آخر تحديث للصور، آخر فنجان قهوة شربه الصديق الفلاني .. الفسحة التي قام بها .. السفرية التي ينعم بها .. الأفراد الذين يهنئونه بعيد ميلاده أو زواجه، من آتاه مولود، من مات له أحد، من حصل على وظيفة، من حضر مؤتمر .. من خطب ومن انفصل، والكثير من الحيوات التي كانت طوال العمر الماضي مستورة.
التغيير في المجتمع أصبح مرعب، انفتح باب التَبَارَى على مصراعيه على أشياء تنافسية تتغذى على حقد النفوس الدنيئة أدت لتطاول رقاب كانت في الماضي تنتظر الأخبار في الشرفات.
لا أعتقد أن تغيير هذا الوضع ممكن حاليا، بل إن الموضوع مرشح بشدة للإنفجار.
العقل البشري الوضيع يميل إلى تسطيح الحياة، فيلجأ البعض إلى التلصص على حياة غيرهم والسعي إلى منافسة غير شريفة للحصول على بعض مكتسبات الغير فيختلط الحابل بالنابل وتذوب الفوارق بين الناس، ما يولد الأحقاد والضغائن والتَسَاجل المستتر.
الحياة أرزاق. لا أحد يعيش بمعزل عن الناس، فالإنسان كائن اجتماعي، لكن أسوأ ما في هذه التجربة أن الجميع أصبح لديه القدرة على تزييف وجهه، روحه، نشر الفضيلة التي لم يعرفها يوما، واستعطاف الأغبياء والسطحيين ليضع نفسه في مصاف الشهداء والأبرار أو المبشرين بالجنة وهو لعنة تمشي على قدمين.
ولعل تصنع الفضيلة هو اﻹفراط الحقيقي في كراهية نفسك، هو الخيلاء التي تزيف واقعك إلى صورة لم تكن تحلم في يوم أن تكون المسمار الذي تُعَلَق عليه.
كم نفاق نفسي، طحين إنساني يمكن أن يغير مذاق حياة الكثير من الناس إلى علقم.
صحيح أن كل ما سبق اختيار .. لكننا تركنا الاختيار بين يدي الجميع فأصبح تلك التكنولوجيا سلاح يخترق البيوت والعقول والأرواح.
هذا الشطر من حياتي كنت أتمنى ألا أكون حاضرة فيه، صحيح إنني واحدة من الناس التي تكتب وربما يعجب البعض بكلماتي، ولكن أمام كل كلمة حقيقية صادقة هناك ملايين من الجُمَل المُمرِضة التي تأتي على الأخضر واليابس في قلوب الناس.
مرة أخرى الحياة أرزاق، لك رزق في المال، في الأبناء، في العمل، في حياتك الأسرية والعاطفية، في صداقاتك، وفي قوة حضورك داخل نفسك.
أتدري يا صديقي ما هو الرزق الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن ينافسك فيه؟ إنه رِزق القبول!
هذا الرزق العظيم الذي يفتح لك قلوب الناس، ولا ينافس على شيء سوى الخير.
لا أحد يمكن أن ينال القبول في صورة .. بل دوما في تصرف، في قلب حنون، في لسان صادق، في سندة رِجال، في كتف الشدة، في طبطبة على القلوب، في أصل كريم، في بيت أصول، في كلمة الله يبارك للي رباك، في سيرة آباء وأجداد ماتوا من عشرات السنين ولا يزال نسلهم في ميزانهم، في نفس شَبِعة، في تمني الخير، في دعوة بدوام النِعَم، في إيثار صادق، وفي قلب يرتجي من الحياة ثرائها ودفئها.
هذا يا صديقي رزق لا يمكن لأحد أن يضعه على فلتر لتخرج صورته بصحبته، إنه ببساطة تاريخ عملك وعِزك على الأرض ورصيد أمانك للآخرة.
احرص على سيرتك بين الناس فهي ستصحبك دنيا وآخرة. يموت الإنسان وتبقى سيرته تصاحبها دعوات أو لعنات.
الإفك الذي يصاحب كلمات بعض الناس يمرضني، يكاد يخنقني، أغلق هاتفي ثم أعود لافتحه فاشتم روائح الغِيْرة الكريهة وعفن القلوب.
محظوظ من عاش حياته وجها لوجه، له حق الحديث وميزة السكوت وترف البقاء أو الانصراف.
تلك القناعات أصبحت اليوم مصدر توهة وتشكل ضغط على سنابل بعض القلوب التي لا تود سوى أن تبقى آمنة تتمايل بلطف على قلوب الناس.
إذا كان ولابد أن تكون جزء من تلك المنظومة، فلتكن الجزء الفضيل منها، لتكن الكلمة الصادقة، الروح التي تذكرنا بالسمو والمكرمة، الشخص الذي يسكن القلوب بلا غرض سوى أن يترك بداخلهم الأثر الكريم.
لتكن يا صديقي صاحب القبول.
التعليقات