منذ عدة أيام كان لي لقاء مع صديقاتي الحبيبات في نادي الصيد بالدقي. أتممت مشاويري وذهبت قبل الميعاد بساعة وكانت جلسة اطمئنان ومحبة. الصديق هو من تذهب إليه بحال متواضع وتعود من عنده بمشاعر أكثر هدوءا وقلب أكثر اطمئنانا.
بدأت التحرك قبل المغرب بساعة وربع حتى أعود للتجمع قبل الظلام لأني لا أقود ليلا.
عادة استخدم الجي بي أس للحركة لأني اسكندرانية ولست من أهل القاهرة، فقادني لكوبري أكتوبر بتوقيت ساعة تقريبا للوصول.
الطريق الطويل المزدحم جعلني افكر في عمل بعض التليفونات فلم انتبه إلى النزلة التي كانت ستقودني للتجمع واسقطني الجي بي أس في منطقة شعبية لم يسبق لي أن زرتها، وكل ربع ساعة انظر للوقت فأجده لا يزال ساعة.
الليل يزحف على السماء كالوحش، بدأت اتوتر بشدة حتى وصلت إلى رمسيس حيث يمكن للزحام الشديد أن يعطيك وقت كاف للقيلولة إلى أن يتحرك الطريق.
وحتى لا أطيل عليكم وجدت نفسي في مكان سبق أن تهت فيه مرتين بقرب مجيّرة أومقابر ما تخلو من كل شيء سوى بضع سيارات قليلة جدا.
توقفت مرعوبة على جانب الطريق وعملت share location لتعرف أسرتي أين أنا.
هاتفني زوجي وهو البارع الدؤوب الحافظ لكل خرائط القاهرة عن ظهر قلب محاولا إرشادي بلا طائل لأن اللوكيشن عنده كان يصل متأخرا.
طلبت منه أن يغلق الهاتف فقد كنت شديدة التوتر وعقلي لا يعمل والظلام يزحف على تفكيري فيعرقلني. هنا قلت له جملة غريبة هي لب مناقشتنا اليوم:"اقفل يا طارق أنا عارفة المكان ده انا توهت فيه قبل كده".
لمن لا يعرفني أنا شخص أحب الاعتماد على نفسي وأحب الناس وأرى أن الحياة في كل عمر بها ما يستحق أن نكتشفه ونتعلم من خلاله.
لم أكن خائفة في منطقة شديدة الشعبية لأن بلدي مصر الجميلة من الصعب جدا ان تشعر بالخوف في أغلب أماكنها. كنت على يقين أني سأجد طريقي، وفعلا وأخيرا خرجت من طريق اسمه على الجي بي أس "اللمام الليثي" وصولا إلى الطريق الدائري وبعد ثلاث ساعات كاملة وصلت لبيتي.
ما أعانني حمدا لله أن عمر إبني عندما قام باستبدال إضاءة كشافات السيارة وضع مكانها اللمبات التي تضاء بها أنفاق القاهرة.
استوقفني في هذا الموقف شيئين، أولا أنني لا أرى جيدا ليلا فخشيت التوقف في مكان لا أعرفه ولا أعرف فيه أحد وانتظر ساعتين حتى يستدلوا على مكاني؛ شعور العمى المؤقت أحيانا يكون موحش وصادم لكل من اعتاد أن يحب الحياة ويفضل الاعتماد على نفسه.
ثانيا جملة أني تهت هنا قبل ذلك كانت وقعها صادم عليّ لأنها لا تعبر عن شخصيتي ولا عن خطواتي في الدنيا، قد أتوه في طريق القيادة ولكني أحسب جيدا خطواتي في الحياة ثم أترك أجر السعي وأمان الوصول على ربي الكريم.
صديقي كلنا نتوه، لكن الخطر الحقيقي هو أن تعتاد أن تتوه.
أن تعتاد التوهان يعني أن تألف وضع تكون فيه في خطر حقيقي وأنت لا تشعر، يعني أنك تعيش في مشكلات لا تنتهي، يعني أن الحياة تفقد بريقها، يعني أن تلك التوهة أصبحت جزء من حياتك، يعني أن رائحة الدخان لا تسبب لك ضيق تنفس، ويعني أيضا أن الدخان تحت الرماد في طريقه للإشتعال.
أعرف جيدا أني شخص معافر وأحب هذه الصفة في نفسي بشدة فقد حققت من خلالها الكثير من النجاحات بكثير من الصبر والجلد والثقة في حتمية الوصول.
لا يهم كم أنت شخص قوي فتلك الصفة يمكن أن تكسبك الأيام إياها، الأهم هو كم أنت متيقظ!
الإنسان يتوه في تفاصيل بائسة لا تحمل بين طياتها حياة، المؤلم أن هؤلاء لن يعرفوا معنى للسعادة، فقد أصبحت التوهة بالنسبة إليهم أسلوب حياة.
هناك فرق كبير بين المتاح والممكن والمستحيل الحصول عليه، وبينما أنت تحاول هنا وهناك تضيع الكثير من الحيوات.
في الكثير من الأحيان تحتاج أن تأّمن نفسك من الداخل. لا يمكن أبدا أن تعتاد أن تتوه فهناك الكثير من الأحباب يحبون جوارك، هناك عمل في إنتظارك وثواب يحتاجه رصيدك، ووقوفك في منطقة رمادية من دنيتك يعطل كل خير في مسعاك.
يا ليتنا نتوه في حياة إيجابية بناءة، يا ليتنا نتوه ونحن نصبر على تربية أبنائنا، يا ليتنا نتوه في سندة حقيقية، في محبة زوج أو أصدقاء أو أهل، يا ليتنا نتوه في البناء وليس في الهدم، ويا ليتنا ندرك في المقام الأول أننا نتوه.
أما أنا يا سيدي فلا املك سوى أن أدعوك للإستيقاظ قبل أن يمر عنك قطارك فتجد نفسك تسكن محطة ما لا يستخدمها غيرك سوى للإنتظار.
من المؤكد أننا جميعا سنظل نتوه ولن ينجو منا إلا من كان مستيقظ. الأَولى لك أن تبقي عينيك مفتوحتين على دنيتك لتجنب الألم والقلق والرماد ودنيا رتيبة منزوعة الحياة.
التعليقات