"من ذهب إلى فرنسا كافر، أو على الأقل زنديق". هكذا كان يظن بعض شيوخ الأزهر في زمن الإمام الشيخ محمد عبده (1845 ـ 1905). وقد استعان بطل رواية "أديب" للدكتور طه حسين (1889 ـ 1973) بهذه المقولة، لينقضها ويفتح بها صفحة جديدة في العلاقة بين الشرق والغرب من خلال الفن الروائي.
وعلى الرغم من ذلك يذهب بطل الرواية إلى باريس ضمن بعثة تعليمية إلى جامعة السوربون، غير أنه مازال منقسما في مشاعره وأفكاره بين العالم الجديد الذي سيستقبله بعد أيام، والعالم القديم الذي خلفه وراءه. فهو يكتب رسالة إلى صديقه (المؤلف) قائلا: "أنا أحاول الآن أن أتصور هذا البلد الذي أنا مقبل عليه، فلا أرى إلا هذا البلد الذي أنا منصرف عنه".
كما أنه يحاول أن يعقد المقارنة ـ وهو في طريقه إلى السوربون ـ بين تلك الجامعة والجامعات المصرية في ذلك الوقت، فيقول: "أحاول أن أتمثل السوربون، فلا أرى إلا جامعتكم المصرية".
ويلفتنا ضمير المخاطب الكاف والميم (كُم)، في (جامعتكم) السابقة، التي توحي بأن الجامعة المصرية، ليست جامعته، ولكن جامعة هؤلاء القوم الذين لا يريد الانتماء إليهم.
إنه يحاول أن ينسى المجتمع المصري، وأصدقاءه المصريين، بل طليقته "حميدة" التي لم يكن لها أي ذنب، سوى أنها زوجة ذلك الرجل الذي يتطلع إلى السفر لفرنسا والدراسة في السوربون على نفقة الحكومة المصرية، ولما كان شرط السفر، بعد التفوق في الدراسة، ألا يكون المبتعث متزوجا، فقد طلق صاحبنا زوجته حميدة دون إي ذنب جنته، مفضلا أن يكون ظالما على أن يكون كاذبا.
إنه يكتب لصديقه قائلا: "أحاول أن أتمثل رفاقي من الفرنسيين فلا أرى غيرك وغير أصحابك الشيوخ. ثم أحاول أن أتمثل جمال باريس، فلا أرى إلا القاهرة، وأحاول آخر الأمر أن أضلل نفسي وأعللها وأمنيها بالأماني الآثمة، أحاول أن أتمثل المرأة الباريسية فلا أرى إلا حميدة قائمة أمامي كهيئتها يوم كانت تستعد للرحيل في بكاء متصل وصمت عميق".
لقد انطوى من صفحات الرواية 125 صفحة من جملة 188 صفحة هي عدد صفحات الرواية، ولم يصل صاحبنا بعدُ إلى باريس. وربما يتجلى هذا التأخير في ظهور باريس على صفحات الرواية بسبب الخوف الذي يعتري صاحبنا من المواجهة مع الآخر، أو مع الغرب، فهو يصرح في خطاب لصديقه يقول فيه: "صدقني أيها الأخ العزيز .. إني لأدنو الآن من فرنسا خائفا وجلا شديد التشاؤم. ولو طاوعت نفسي لما استقررت في مرسيليا إلا ريثما آخذ السفينة التي تردني إلى مصر".
ويقول له في موضع آخر من الرسالة: "ومن يدري! لعلي أعود إليك بعد حين، ولم أر باريس، ولم أختلف إلى السوربون، ولم أشهد أندية اللهو والمتاع".
إنه خائف من الاقتراب من الآخر أو من الغرب، لأنه يخشى فشل تجربته في بحر الحياة الأوربية المملوءة باللذة والألم، المفعمة بالخير والشر: "ليت شعري أأرسبُ فيه أم أطفو عليه؟".
ولعل المرء يستطيع أن يتساءل: هل المقولة السابقة بدأت تعمل عملها في لا شعور صاحبنا، فبدأ يخاف من الاقتراب من فرنسا "من ذهب إلى فرنسا كافر، أو على الأقل زنديق"، ومن ثم بدأ يندم على سفره هذا؟.
لقد وصل إلى مرسيليا، وهناك أخذ يتلكأ، بل يتردد، في الذهاب إلى باريس، ويقول لنفسه: "ليس هناك ما يدعوني إلى أن أُسرع إلى باريس". و"إن الإسراع إلى باريس خطل وحمق". فمازال في خوف من المواجهة، ومرسيليا مازالت تمثل له حالة وسطا بين الجو الأوربي الخالص والجو الإفريقي الخالص، لذا يتمسك بها، محاولا تأجيل تلك المواجهة مع باريس التي تمثل الجو الأوربي الخالص.
يقول لصديقه في خطاب جديد من مرسيليا: "هذه المدينة وسط بين الجو الأوربي الخالص والجو الإفريقي الخالص، فهي على البحر الأبيض المتوسط، وفي الانتقال الفجائي من جو إلى جو خطر على صحة الجسم، وقد يكون فيه خطر على صحة النفس أيضا، فلأصطنع الأناة، ولأدع هذه العجلة فإنها لاشك من الشيطان. وما يمنعني أن أستأني وقد تركت مصر وجعلت من بينها وبيني بحرا عريضا، فلست أخاف على البعثة، ولست أخشى أن أرد عن باريس".
ثم يتعلق بفتاة تعمل في الفندق الذي يقيم فيه في مرسيليا، إنها "فرنند" الجميلة الرشيقة حلوة الحديث خفيفة الروح والتي تحمل له الطعام وتبسم للأضياف، فيقارن بينها وبين حميدة طليقته المصرية البائسة، ويحاول أن يرجئ من أجلها الرحلة إلى باريس. لقد وجد مبررا ليؤجل المواجهة مع عاصمة الغرب.
ولكن مع نهاية صفحة 149 يفاجئنا صاحبنا بذهابه إلى باريس، ذهاب المضطر، فيرسل لصاحبه قائلا: "أنا أكتب إليك من باريس، بعد أن أقمت فيها إقامة المستقر لا إقامة الزائر الملم". ولكن يتضح بعد ذلك إن إقامته في باريس لم تكن على الوجه المحمود، فهو في باريس متعب مكدود، بل مريض يُشرف على أعظم الخطر وأشده نُكرا.
ويبدو أنه بعد هذا التردد والتلكؤ، وبعد التعب والكد والمرض، يقرر النزال والمواجهة مع باريس، فيفعل الأعاجيب، ويُتم في عام واحد ما لا يتمه غيره في أعوام. وتكافئه باريس، وتفتح له ذراعيها، فيقع في هواها، ويكتب لصديقه قائلا: "حياة باريس لا توصف في الكتب والرسائل، ولا سبيل لك إلى أن تعرفها مقاربة إلا إذا حييتها".
وفي مقارنة بين الحياة في مصر والحياة في باريس بعد أن وقع في هواها على هذا النحو، يقول: "إن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من الأعماق". بل إنه يحث صديقه على الإسراع في الذهاب إلى باريس فيقول له: "أسرع إلى باريس متى استطعت، فإني انتظرك فيها".
وتتعدد الخطابات بينه وبين صديقه، وتتبدل المشاعر تجاه باريس، فبعد الخوف والقلق والمرض يأخذ صاحبنا عهدا على نفسه بألا يبرح باريس مهما تكن الظروف، وإن انتهى الأمر إلى الموت (وأي شيء يكون الموت في سبيل باريس). هكذا يرتمي صاحبنا في أحضان الغرب، مستعدا للدفاع عنه حتى الموت، بل ماذا يكون الموت في سبيل هذا الغرب؟
لقد جذبته باريس، فأصبح منجذبا في الحدائق والمتاحف والقهوات (المقاهي) وأمام التماثيل والعمائر الباريسية، ومعاهد العلم ومعاهد اللهو. إنه يرى في باريس كنوزا للإنسانية قد حوت خير ما عند الإنسانية من فن وأدب، ومن فلسفة وعلم، ومن عمل وأمل، ومن تفكير وتدبر، وروية ونشاط. ومن ثم تكون تلك العبارات التي تحوي الكثير والكثير (حرام عليَّ فراق باريس حتى أصير إلى مثل ما تصير إليه). أو (الموت أهون علي من ترك باريس). أو (إقامتي في فرنسا قضاء محتوم لا مندوحة لي عنه، وشهد الله ما أجد لذلك ألما، وإنما أجد اللذة كل اللذة).
ومع قيام الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) يرفض التخلي عن باريس، والرجوع إلى مصر، فما ينبغي أن يترك باريس في مثل هذه الظروف، ويعلل هذا بقوله (ما ينبغي للرجل الكريم ذي المروءة أن يعيش مع الناس ضيفا عليهم مستمتعا بما يمنحونه من الأمن أخذا بأوفر حظه مما يبيحون له من لذة العقل والقلب والجسم، حتى إذا ألمت بهم الخطوب أو هجمت عليهم الأحداث، فرَّ عنهم مسرعا لا يلوي على شيء، أو أقام فيهم جبانا أثرا خانعا لا يبتغي إلا أن يعيش).
ومن ثم يبدأ الاختلاف إلى أحد المقاهي التي يألفها الأدباء في حي مونبرناس. وتبدأ في الظهور امرأة ثالثة (بعد حميدة وفرنند) في الرواية. إنها "إلين" الباريسية التي يستقبل صاحبنا معها حياة المساء في باريس المضطربة، والتي لا تريد أن تهجر وطنها، ولا أن تفارق باريس، وإن أعطيت ملء الأرض ذهبا.
إن إلين تتمسك بفرنسيتها، أو بعالمها الغربي، ولا تريد الذهاب إلى الشرق، فالشرق ذهب إليها ولا يريد أن يعود، فلماذا إذن تهجر هي وطنها وتذهب إلى بلاد لا تعلم عنها شيئا، بلاد يقال عنها إنها متخلفة.
ويبدو أن صاحبنا لم يتحدث مع إلين بشأن الذهاب إلى مصر (إلى الشرق) فهذا الموضوع غير مطروح للنقاش أصلا، فالأسباب مقطوعة بينه وبين مصر، على الأقل حتى تنكشف غمة الحرب، ففي فرنسا يرى إلين متى شاء، وتراه متى أحبت.
غير أن الأمور لا تسير كما يحب صاحبنا، فينقلب حاله من حال إلى حال، ويعاني من الاضطرابات النفسية، ويُخيل إليه أن الصحافة الفرنسية تهاجمه وتمقته وتبغضه وتكيد له، وكأنه ألماني تهاجمه الصحف، وكأن هذه الصحف لا تعرف وفاءه لباريس، وإقامته فيها حين تفرق عنها الناس، ثم يعظم الأمر قليلا قليلا وإذا الحلفاء جميعا يمكرون به ويكيدون له، ويدبرون له السوء، بل إن الحلفاء يأتمرون به لينفوه إلى المغرب الأقصى، فيكتب إلى أساتذته في السوربون وإلى كبار السياسيين في مجلس النواب والشيوخ، لاتقاء هذه الكارثة، ولكنهم لا يردون عليه. فيصف باريس بأنها الخائنة الماكرة التي لا تعرف جميلا، ولا ترعى حقا، ولا تحفظ ود الصديق، والتي هي في حقيقة الأمر صورة صادقة لهذه الفتاة الخائنة التي كانت تسمى "إلين" التي جحدت حقه ونسيت مودته، وأعرضت عن حبه إعراضا، وأخذت تكيد له مع الكائدين وتمكر له مع الماكرين. بل إنه يذهب إلى أن إلين هي التي أفسدت عليه قلوب الحلفاء وصورته لهم في صورة العدو المخيف، وأنها هي التي زينت لهم نفيه إلى المغرب الأقصى.
بعد أن تأزمت الأمور بينه وبين الغرب على هذا النحو، يفكر صاحبنا في العودة إلى مصر (إلى الشرق) ويتساءل: "أليس مصر أولى بي؟ أو لست أنا أولى بمصر؟ إن في مصر حميدة وإن في فرنسا إلين، وجوار حميدة على بغضها لي أهون علي من جوار إلين".
وعلى الرغم من كل هذا مازال يتمسك بالعيش في فرنسا، وفي توثيق العلاقة بينه وبين الغرب، ولكن بعد زوال غمة الحرب. (فإذا وضعت الحرب أوزارها وتبين للحلفاء أنهم قد ظلموني حين أساءوا الظن بي وسمعوا فيَّ وشاية الوشاة، فمن يدري لعلي أعود إلى فرنسا فأتم دراستي في السوربون وأقترن إلى هذه الفتاة التي أحبها حبا لا حد له).
غير أن صاحبنا يختفي في نهاية الرواية، اختفاء مريبا، فلا نعرف هل هو عاد متخفيا إلى مصر، أم نفي في السر إلى المغرب الأقصى، أم مات دون أن يعثر أحد على جثته، ودون أن يعرف صديقه (المؤلف) الذي قد لحق به في بعثة تعليمية، ولكن في مدينة أخرى غير باريس، هي مونبلييه، ولكنه كان يتردد على باريس بين الحين والحين.
إنه يذكرنا في غيابه واختفائه هذا بمصطفى سعيد، بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، الذي لم نعرف هل مات منتحرا في نهر النيل، أم عاد مرة أخرى إلى لندن، أم ماذا جرى له؟
هكذا تبدو العلاقة المتوترة التي قد تصل إلى حد القطيعة بين الشرق والغرب، كما صورها قلم الدكتور طه حسين، من خلال قصة صديقه التي يزعم البعض أنه شخصية حقيقية واسمه (جلال شعيب).
ومن الناحية الفنية، فقد تمثل د. طه حسين روح باريس، فظهرت خصوصية المدينة، وجماليات المكان على الرغم من محدودية الصفحات التي تحدث فيها عن باريس في "أديب" (حوالي 60 صفحة). وذلك على عكس ما جاء في "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، الذي غابت في روايته روح باريس تماما.
التعليقات