من الأمور التي تثير حفيظتي بشكل مستمر استخدام مصطلحات "رنانة، طنانة" تتسم بالغموض بعض الشيء، بشكل يوحي بأن مستخدمها على دراية وثقافة عليا، الأمر الذي يجعل مَن يتلقى عنه مثل هذه المصطلحات يشعر بالصغار، إن لم نقل الدونية واحتقار الذات، لأنه لم يصل إلى هذا المستوى من الإدراك المعرفي والثقافي الذي يؤهله لاستقبال مثل هذه المصطلحات بشكل طبيعي لا يثير بداخله تساؤلات تُشعره بفقره الثقافي. الأزمة الحقيقية تكمن في اعتقاد العامة بقدسية هذه المصطلحات، فلا تراهم يشككون فيها، إنما يشكون في أنفسهم، لا يتهمونها بأنها مصطلحات واهية تُطلق من أجل الإبهار بقدر ما يتهمون أنفسهم بالجهل والإفقار الثقافي. وهو الأمر الذي يجعل سيل المصطلحات الرنانة في تزايد، فلا أحد يتصدى له، إذا يضع أصحابه في منطقة خاصة من التبجيل والقداسة "الوهمية بالطبع" أعلى منظومة الهرم الثقافي.
معظم هذه المصطلحات، لا تعميم في العادة، يُستخدم كما ذكرت كنوع من البهرجة والإبهار، يستخدم كــ مكياج للحديث فيتزين كما تتزين عروس، لكن المكياج يزول أمام حفنة ماء ويبقى الجمال الطبيعي، أو تبقى الحقيقة أيا كانت، كذلك يزول مكياج الحديث وتزيينه ويبقى الأثر الحقيقي لكلماته.
الغريب أن مستخدم المصطلحات "الرنانة، الطنانة" إن سُئل عن تفسير لأي مصطلح يستخدمه، سوف يجيبك بكلمات واهية، إن لم ينظر إليك نظرة استياء واتهام بالجهل ليخرسك، وكون إجابته واهية تعود لأن المصطلح ذاته واه ومختلف عليه، وله عشرات التفسيرات والتعريفات المتغيرة بتغير الزمان والمكان.
وفى مجال الأدب، ظهر على فترات مصطلح "الحداثة"، ثم تلاه مصطلح "ما بعد الحداثة"، وفى ذلك ظهرت مؤلفات عديدة، إن تقرأ بعضها، وهو مكون من مئات الصفحات، تجد نفسك وقد خرجت صفر اليدين، لأن صاحب المؤَلف هذا قد استعان بدراساته حول نماذج من الرواية، وإذا به يتعرض لدراسة نقدية متكاملة لعدة روايات في فصول كتابه، فإن استعرض رواية في فصل من خمسين صفحة (ويستعين بفقرات ومقاطع من الرواية) فإذا به يستعرض خمس أو ست روايات لينتج في الأخير كتاب كامل، وقد نثر المصطلحات الخاصة بعنوانه في كل مكان يسمح به من كتابه، وينتهي الأمر.
لكن دعونا من كيل الاتهامات للمصطلحات الرنانة وأصحابها، ولنهتم بمصطلح وحيد يخص عالمنا الروائي، ألا وهو مصطلح "الحداثة"، وبالطبع يرتبط به "ما قبل الحداثة، وما بعد الحداثة، وفريق الحداثيين... إلخ".
وقبل أن نضرب مثالا، أود أن أكتب تعريف سريع لكلمة الرواية، تعريف يهمني أن يعرفه قارئي غير المتخصص كي يفيده في قراءته للسطور القادمة، الرواية باختصار شديد هي "حكاية طبيعية ترصد واقع معين برؤية خاصة لكاتبها".
والآن إلى نموذج يحدثنا فيه باختصار د. مصطفى عطية جمعة في كتابه (ما بعد الحداثة في الرواية العربية الجديدة "الذات – الوطن – الهوية") عن أن الحداثة ليست مذهبية أدبية فقط، إنما هي تطور مجتمعي شامل يبدأ بالإنسان وينتهي بالأمة، فمحورها الهدم، ونقض الموروث، وإعادة بناء قلاع فكرية وثقافية من منطلقات عقلية موضوعية، تعالج أمراض الإنسان المعاصر، وتنقذ المجتمعات من صراعات إثنية و موروثات طبقية .
وهو في هذا الكتاب يقدم قراءة لتجليات ما بعد الحداثة في الرواية العربية الجديدة من خلال نماذج دالة، وقد وقع الاختيار على خمس روايات، من ثلاثة أقطار عربية، رأى الباحث أنها تعبر بشكل أو بآخر عن رؤى ما بعد الحداثة، وهي في مجملها تدين ما وصل إليه العرب، وتعبر عن أزمة الإنسان العربي، وضياع الانتماء، والإحساس بالدونية في الوطن، وغياب الهوية الجامعة، وسيادة الفردية والنرجسية.
فقد حملت روايات ما بعد الحداثة نمطا مغايرا، وإن كان بعض من كتبها كانوا حداثيين، إلا أنهم أعادوا قراءة الواقع والتجربة، وبعضهم لم يكن حداثيا، بل من جيل الشباب الذين نشأوا في شعارات براقة، وتطبيق زائف، فانطلقوا منتقدين الواقع، بلغة واضحة، وسرد مباشر، وتعبير عن الأزمات برؤية شمولية، بأسئلة صريحة، وتشريح للوطن، ونثر الذات بكل ما فيها من تناقضات، ومناقشة المحرمات، ورفض الإيديولوجيات الكبرى، التي آمنوا بها فترة من الزمن، ونادوا بها في كتاباتهم، ثم عادوا رافضين لها: إما لعدم جدوى تطبيقها، أو لأن دعاتها ليسوا أهلا لها، أو لأن الجميع اكتووا بتسلط الديكتاتوريات العربية. وقد احتوت هذه الروايات على كثير من المنجز الجمالي الروائي العربي، على صعيد الشكل والأسلوب والبناء.
والسطور السابقة لمنجز أحد المهتمين بهذا المصطلح استخدم فيه أيضا عدة روايات كنماذج لبحثه، ولكنه كما أفاد، قال إن روايات ما بعد الحداثة وإن كان بعض من كتبها كانوا حداثيين إلا أنهم أعادوا قراءة الواقع.
وهنا أصل إلى الجزئية الرئيسية التي أبحث عنها، وهي قراءة الواقع، فماذا يقدم الأدب منذ نشأته إلى يوم زوال البشرية؟! إنه يقدم قراءة للواقع، فكل كاتب يقدم واقعه الشخصي، المرتبط بتنشئته وبيئته والظروف الاقتصادية والسياسية التي ترعرع فيها، هذا هو الأدب، هذا هو المنجز الأدبي.
أما الاختلافات الطبيعية بين كاتب وآخر، زمانيًا ومكانيًا، هي التي تحدد عبقرية هذا الكاتب عن غيره، وهذه الاختلافات تأتي في جانبين إبداعيين، الأول من حيث الشكل، أي القالب الذي يستخدمه الأديب لصياغة عمله الروائي، أعني الشكل، أعني الطريقة التي يقدم بها منجزه الأدبي لقرائه، فهو كما مجموعة أعطيناها قطع كبيرة من اللحم وتركنا له حرية التفنن في طهيها، فهذا يشويها والثاني يطهيها مع خضار والثالث يُنديها والرابع يقليها.. إلخ، المضمون واحد والشكل مختلف وفقًا لإبداع كل فرد.
هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فهنا يظهر الإبداع الحقيقي للكاتب الذي يتفوق على غيره بأن رؤيته ثاقبة، رأى وعبَّر عن رؤيته بأسلوب مختلف تمامًا، لهذا يتفوق ويحصل على الجوائز وأهمها جائزة الجمهور بالطبع.
إذن اتفقنا على أن الأدب يقرأ الواقع لكن برؤى مختلفة، فمن أين إذن تأتي الحداثة؟! لا حداثة على الإطلاق في رؤية الواقع، وهو الأصل، لكن قد تأتي الحداثة وتتنوع من حيث ابتكار قوالب "شكلية" جديدة في تقديم هذه الرؤية للواقع، أو قد تكون الحداثة في استحداث ظروف جديدة للبوح برؤية الواقع، فما يُسكت عنه في زمن قد يباح في زمن آخر.
فالحداثة الحقيقية، وما بعد الحداثة.. وجميع المصطلحات الرنانة في عالم الرواية على وجه التحديد، أرى ان لا علاقة لها بصنف الرواية الحقيقية التي تقدم رؤية للواقع، وأكرر هي رؤى تختلف باختلاف مبدعها زمكانيًا، إنما هي مصطلحات يتم استخدامها كنوع من الطفو على السطح للظهور، في وقت يمكن لنفس مستخدمي هذه المصطلحات أن يقولوا بتصنيفات أكثر واقعية كأن نقول الرواية القديمة والحديثة والمعاصرة، أو روايات الأوائل، ثم روايات أجيال كذا وكذا، كتصنيفات زمانية، أو نقول بتصنيفات بروايات الشمال والجنوب، روايات البحر وروايات الصحراء كتصنيفات مكانية، وفى كل صنف تطور خاص به من حيث رؤيته لبيئته ومن حيث الشكل المقدم.
عقدتنا الدائمة في عالمنا العربي هي النظر للغرب والسعي إلى استخدام مصطلحات توافقه وإن لم يستخدمها الغرب نفسه، فتجد أن كثيرًا ممن يستخدم مثل هذه المصطلحات "الرنانة، الطنان"، يذكر في حديثه أسماء أجنبية لإضافة القدسية على حديثه، فتجده يؤكد بأن "ساكوماتي بندورا" أكد في كتابة نظرية تأصيل ما بعد الحداثة وجوب الانتقال بالرواية إلى عصر جديد علينا اللحاق به، وكيف لنا أن نلحق به ونحن متمسكون بهذه الأنساق التقليدية؟! ثم يمط شفتيه استياءً. وبالطبع لن يقاطعه أحد ويسأله مَن هو هذا الساكوماتي بندورا؟! وأين هذا الكتاب الذي ذكره؟! (لا يوجد أحد بهذا الاسم بالطبع، وأعني أنه يستخدم أي اسم والسلام لتعميق رؤيته وإضافة الهالة عليها) لكن الواقع لو وجِدَ هذا الساكوماتي وقال بهذه الكلمات فهي ليست كلمات مقدسة يجب العمل بها، فلكل أدب أهله من الكُتاب والقراء والطبيعة التي ينبت ويترعرع فيها.
ولو نظرنا إلى أهم الروايات، عربيا وعالميًا، قديمًا أو حديثًا لوجدناها لم تخرج عما تحدثنا عنه كأصل، لم تخرج عن كونها حكاية طبيعية ترصد واقع معين برؤية خاصة لكاتبها. ومن ذلك ما طالعتنا به الصحف مؤخرًا من فوز الكاتبة الألمانيّة جيني إيربنبيك بجائزة البوكر الدوليّة ٢٠٢٤، وذلك عن روايتها: "kairos" التي نقلها للإنكليزية مواطنها المترجم مايكل هوفمان، وهما أول كاتب ومترجم من ألمانيا ينالان هذه الجائزة، وتوصف الرواية بأنها تحفة فنيّة، تخيلوا: تحفة فنية وتحصد جائزة مهمة مثل هذه في عام 2024، فمؤكد أنها أتت بحداثة ما بعدها حداثة، لكن تعالوا نقترب لنتعرف على مضمونها.
تسرد الكاتبة الألمانية جيني إيربنبيك قصة الرومانسية التي بدأت في ألمانيا الشرقية في نهاية الثمانينيات حين تلتقي كاتارينا البالغة من العمر ١٩ عامًا بالصدفة بكاتب متزوج في الخمسينيات من عمره يدعى هانز. تدور أحداث علاقتهما العاطفية والصعبة في رحلة طويلة الأمد على خلفية تدهور الوضع السياسي في جمهورية ألمانيا الديمقراطيّة، من خلال الاضطرابات التي حلت بها عام ١٩٨٩ وما يليه. تصف إيربنبيك مسار العاشقين، حيث تكبر كاتارينا وتحاول التصالح مع قصة حب ليست دائمًا مثالية، حتى مع اختفاء عالم كامل بأيديولوجيته الخاصة.
وكتب الملحق الأدبي لجريدة التايمز عن الرواية: "إن ثقل التاريخ، والتجارب الخاصة للشرق والغرب، والطرق التي تشكل بها الذاكرة الثقافيّة والذاتية الهوية الفردية كانت دائمًا حاضرة في أعمال إيربنبيك. إنها تدرك أنه لا وجود لشخص كله سيّء، كما لا توجد دولة كلها فاسدة، وهي تلتقط ببراعة الحَيرة الوجوديّة لهذه الفترة التي تخوضها الدول والأيديولوجيات"..
مجرد قصة عادية للغاية، حكاية، أين الحداثة التي انتهجتها الكاتبة عند كتابتها هذه الرواية في عام 2024 أي قمة الحداثة؟! لا شيء مرتبط بحداثة أ غير حداثة، الأمر كيف عالجت قصتها وكيف قدمتها، هذا هو معيار استحقاقها لجائزة مثل هذه.
أريد في الأخير أن أصل معكم إلى ضرورة التوقف عن وضع العراقيل في طريق المبدعين مثل هذه المصطلحات التي تعتبر نوعًا من التوجيه، غير المعلن، للحالة الإبداعية، قيود يستخدمها البعض للتصنيف، وهو تصنيف غير منصف على الإطلاق، كأن يؤكد بأن رواية ما، وهي رواية عظيمة، غير جديرة بالمناقشة لأنها كُتبت بنفس أسلوب جيل الآباء، أو ان رواية ما تستحق كل التقدير والحصول على الجوائز لأنها استخدمت شكلا أو مصطلحات مغايرة للمألوف، وإن كانت رواية سيئة في حد ذاتها.
أنا لا أنتصر للشكل التقليدي في مواجهة مصطلح الحداثة، إنما أنتصر لطبيعة الرواية، الحكاية، وكيف تختار أفضل القوالب والأردية التي تظهر فيها، لتكون في أبهى صورها، ولنعلم أن الإكثار من الزينة يُذهب الجمال، وأن أفضل الجمال هو الطبيعي.
أيها الحداثيين ارفعوا أيديكم عن الإبداع، وانطلقوا أنتم في حداثتكم وأبهرونا بما ستقدمون من روايات، لا تبهرونا بالمصطلحات "الرنانة، الطنانة" فقط، إنما نريد قراءة رواياتكم المُجسِدة للحداثة وما بعد الحداثة، وإن استطعتم أن تقدموا لنا معنى مغاير لــمعنى "الرواية هي حكاية طبيعية ترصد واقع معين برؤية خاصة لكاتبها"، فنحن سنرفع لكم كل قبعات الحداثة.
التعليقات