كنت أظنها معضلة لا يقاسيها أحد غيري. ظننت أنهم يفعلون ذلك بسهولة، وأنا فقط من أجد الصعوبة، إلى أن اكتشفت أنه لم يجتمع الكل إلا على التنازل. لقد تنازل شباب دول العالم الثالث، حتى عن أبسط حقوقهم، وهم من يشعرون بالذنب والدونية وعدم الاستحقاق.
يأتي الطفل إلى الدنيا صفحة بيضاء، يستقبله أهله بالترحيب في الدنيا ومتاع الطفولة، ثم يخبرونه بضرورة الاهتمام بالتعليم "فلا يقع على عاتقك مسئولية غير المذاكرة" وبحديث يطول عن ما يخبئه لك القدر من سعادة ونجاح واستحقاق مقابل كدحك في سنواتك الأولى تلك، وبقليل من الضغط، يصدق ويطلق العنان لخياله لأبعد حد، إلى أن ينهي دراسته الثانوية وتبدأ تلك الغشاوة التي وضعها والداه على عينيه في الزوال تدريجيا، ليخطو أول خطوة في قلب الحياة وواقعها.
تأخذ الصدمة الأولى وقتها وتمر، وهي صدمة دخولك إلى كلية لا ترغب في دراستها، فحتى نصبح أكثر واقعية، يجب الاعتراف بأنه لمن الصعب القريب من المستحيل أن تجد واحدا من أولئك الذين رغبوا في دراسة مجال ما ووصلوا إليه. نعم؛ فنحن في العام 2024، ولا يزال شبابنا في تلك النكبة التي لا تعرف أن تنتهي.
وبمجرد أن تصل إلى لحظة الاستفاقة، والتي لا تستغرق عادة سوى عدة أشهر على الأكثر، فلا مجال لمثل تلك الرفاهية، تبدأ في استقبال العديد من النصائح القريبة من الفروض في صيغتها وتحذيرات البعد عنها.
يأتي والدك بالنصيحة الأولى بوجوب تفوقك في مجال دراستك، وتأتي الأم بالنصيحة الثانية وهي وجوب الاستقرار وسرعة اختيار شريك الحياة، ويأتي المجتمع بالنصيحة الثالثة وهي وجوب الاستقلال المادي عن عائلتك، ويأتي العم بالنصيحة الرابعة وهي وجوب البحث عن مجال آخر غير مجالك الأصلي للتمرس فيه؛ فالمستقبل مجهول ومرعب، ويأتي الخال بالنصيحة الخامسة وهي وجوب اكتساب المهارات الأساسية كتعلم اللغات الأكثر حديثا في العالم، وقيادة السيارات، وتأتي جدتك ختاما قائلة: "خد بالك من صحتك وكل كويس، شكلك مش عاجبني"، ثم يردد الجميع في انسجام "استمتع، فهذه أجمل أيام حياتك".
كل هذا بالإضافة إلى رغباتك الأساسية؛ ستدفعك روحك إلى هواياتك، القراءة واستماع الموسيقى وممارسة الرياضة وغيرهم، وسيدفعك عقلك إلى السكون فالراحة.
لم أعد كل هذا من أجل عتاب؛ لأن هذا هو العادي شئنا تصديق هذا أم أبينا، ولكن ما نحياه هو ما حرم علينا العادي، كيف تتفوق في دراسة مجال لا تحبه؟ وإن استطعت، كيف ستجد شريك حياة في حياة ضاع فيها كل معاني ودوافع الحب الصادق دهسا تحت عجلاتها؟ وإن استطعت، كيف تستقل ماديا عن عائلتك وأنت تحيا باحثا عن عمل وإن وجدته؛ ستجد راتبه كافيا لذهابك إليه فقط، فتظل معتمدا على عائلتك؟ وإن استطعت، كيف ستتحمل معاناة دراسة مجال جديد غير مجالك بلا أمل قريب في عائد مجزي من هذا المجال؟ وإن استطعت، كيف ستدبر أموالا طائلة لدراسة لغات جديدة؟ وإن استطعت، كيف ستأكل جيدا وتنام جيدا وتحافظ على صحتك، وأنت أسير لتلك الدوامة التي لا حول لك فيها ولا قوة؟!
هل سيبقى لك شغف للقراءة أو استماع الموسيقى أو ممارسة الرياضة أو الاقتراب من أي هواية؟ نعم؛ سيبقى. سيصبح هذا هو المهرب الوحيد لك من الدنيا بما فيها ومن فيها.
وهنا لا نطالب بتعديل أو مساعدة، بل نأتي بنصيحة سابعة، وهي ألا تلوم نفسك وألا تحملها ما لا طاقة لها به، فعدم قدرتك على القيام بواجباتك العادية ليس ذنبك وحدك، بل يمكن أن نقول أن لا ذنب لك على الإطلاق، ونصيحة ثامنة إلى الأهالي "لا تخدعوا أطفالكم، لا توهموهم بما أنتم عاجزون عن تحقيقه، لا تمنحوهم أملا سيُسلب منهم بكل قسوة في سلسلة لا متناهية من الخيبات".
والنصيحة التاسعة "عش حياتك بلا نصائح، بلا قواعد خانقة، افعل ما تحب، واندفع وراء ما تهوى وإن كانت مجرد شهوة زائلة، استمتع بكل ما أباحه الله لك، وإن شعرت بالإرهاق، قم واغلق ستائرك وأغمض جفونك ولا تأبه بأحد."
التعليقات