عرفتُ الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة عن قرب في الغربة، كنتُ أعملُ في مدينة الرياض بالسعودية، وكان موجودًا في قرية الدوادمي في العام الدراسي 1991 ـ 1992، مصاحبًا لزوجته الدكتورة بإحدى أجهزة التعليم السعودية، بتلك القرية.
لم تكن الدوادمي تملك أية مؤهلات مدنية أو شعرية في ذلك الوقت، لذا عاش الشاعر غربته غربتين، غربة المكان، وغربة الأصدقاء والروح التي كانت تشعر بسجنها المفروض عليها قَسرا.
لذا كان ينتهزُ الفرصة للذهاب إلى الرياض، ليلتقي بأصدقائه المصريين من الشعراء والأدباء المقيمين بالعاصمة السعودية، ربما يعوِّض قليلا من مشاعر الغربة والمَرَار التي اقتحمت عالمه الخاص على حين غرة.
كنا نلتقي في مدينة الرياض، فأحس بآلامه وأحزانه، وقلقه وثورته الداخلية التي لم ينقذه منها إلا الشعر والكتابة والقراءة، ومراسلة الصحف والمجلات الأدبية والثقافية. وكان يناجي الأيام أن تمرَّ بخطى أسرع مما هي عليه، لينتهي العام الدراسي، ويعود إلى مصر، بعد أن فشل في تحقيق أدنى تواءم أو انسجام، في تلك البقعة من العالم.
وعلى هذا يعقب الشاعر الكبير فاروق شوشة في كتابه "زمن للشعر والشعراء" فيقول: "لولا أن النيلَ استيقظ فيه وأسعفه بالمدد ـ حياتيا وشعريا ـ لما استطاع أن يتجاوز الامتحان الصعب والتصحُّر المخيف".
أمران ابتهج لهما أبو سنة في هذه الرحلة الصحراوية الصعبة.
الأمر الأول: الأمسية الشعرية التي أعدها له النادي الأدبي بالرياض برئاسة الشاعر عبد الله بن إدريس، وحضرها جمهور سعودي ومصري كبير، يتقدمه السفير المصري بالرياض في ذلك الوقت محمد فتحي الشاذلي، وعدد كبير من أبرز الوجوه الثقافية في العاصمة السعودية.
الأمر الآخر: الأمسية الشعرية التي كنتُ شريكًا معه فيها في مدينة أبها، وبالتحديد في نادي أبها الأدبي برئاسة محمد عبد الله الحميد، والحفاوة التي استقبله بها الشعراء والمثقفون السعوديون، والمصريون والعرب المقيمون هناك.
هاتان الأمسيتان استطاعتا أن تخفِّفا قليلا من آلام الشاعر وإحساسه الحاد بالقلق والغربة.
لقد كان أبو سنة قبل مجيئه إلى الدوادمي يعمل في إذاعة البرنامج الثقافي، وكان ـ ولا يزال ـ ملء السمع والبصر، ولكنه أحس بأن كل هذا ينسحب ـ فجأة ـ من تحت قدميه، وهو يمضي أيامه سجينا وسط صحراء شاسعة من الرمال، والأحزان، والغربة.
لذا سرعان ما اتخذ قراره بعدم العودة ثانية إلى صحراء المكان، وصحراء النفوس، مهما كانت الإغراءات أو الإغواءات المادية.
ويبدو أن إحساسي بأزمة الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في ذلك الوقت تسلَّل إلى إحدى قصائدي، فقلت في قصيدة بعنوان "رائحة البحر"، أشرتُ فيها إلى بعض الأصدقاء الشعراء:
كان صديقٌ آخر
يُشهرُ أحزانَ الغربةِ
في بلدٍ صحراويٍّ قاسٍ
يخلعُ منه
جذوةَ هذا الحبِّ
ويقرأُ في التلفازِ
قصيدةَ غربتهِ
حدَّثكَ صديقُكَ
عن أحزانِ العالمِ
عن "ميٍّ"
توأمِ قلبِ الشعرِ لديه
كان صديقُك
يبكي شِعرًا
كانت مأساةُ الفوضى
تقتلعُ ..
قصائدَه الأخرى.
و"مي" هي ابنة الشاعر الوحيدة، التي لم يكن يقدر على فراقها طويلا، ولعلها كانت وراء اتخاذ قراره بالذهاب ـ مع أمها ـ إلى "الدوادمي" في تلك الفترة العصيبة من حياته.
عرفتُ الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة قبل هذا بأكثر من عشر سنوات، كنت ألتقيه في الندوات والأمسيات الشعرية في القاهرة وفي الإسكندرية، وكنت أزوره في مكتبة بالإذاعة، وكان يذيع لي قصائد كثيرة ببرنامجه الشهير "ألوان من الشعر" بصوته العذب، بإذاعة البرنامج الثاني الذي تحوَّل إلى مسمى "البرنامج الثقافي" بعد ذلك.
وأتذكر أنَّ أوَّل حوار أدبي أجريته في حياتي الصحفية، كان مع الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، وكان في فندق سيسل بالإسكندرية.
اصطحبتُ معي جهاز تسجيل وكاميرا، وكان أبو سنة يشجعني على مزيد من الأسئلة، وإثارة المزيد من القضايا الأدبية، فهو يعتقد أن الصحافة الأدبية تحتاج إلى أدباء يدخلون المجال الصحفي، وليس إلى صحفيين يدخلون المجال الأدبي. ونُشر الحوار على مساحة كبيرة في جريدة "الجزيرة" السعودية، فور إرساله.
ولكن في الرياض وأبها، عرفت ـ عن قرب ـ أبو سنة الإنسان المثقف، إلى جانب الشاعر المحلِّق الذي يرى أن "الإنسان وهو يحيا مقيدا بالزمان والمكان مرهون بهذه القيود التي لا يستطيع التحرر منها إلا بالخيال الذي هو أخطر عنصر في التجربة الأدبية، فبدون الخيال تصبح الكتابة مجرد صور آلية لواقع فقير".
كما يرى أيضا "أن الخيال هو الذي يعبر بنا حدود الواقع إلى آفاق المستحيل، ولكنه يجعل من هذا المستحيل واقعا جديدا لم نألفه من قبل".
وكم كانت سعادتي كبيرة بانطلاقه من الأسر، وفراره من السجن الصحراوي، وعودته إلى قاهرته ونيله وميكرفونه الأثير، وخياله الإبداعي الراقي الذي منحنا الكثير من الدواوين الشعرية العذبة، والمسرحيات الشعرية المهمة، والمقالات الأدبية والنقدية الكاشفة.
ولد الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة عام 1937 في قرية الودي ـ مركز الصف ـ بمحافظة الجيزة، ونزح إلى القاهرة ليكمل تعليمه الأزهري، فتخرَّج في كلية الدراسات العربية عام 1964 ثم استقر في القاهرة، نهائيا، بعد أن عُين محررا في الهيئة العامة للاستعلامات، ثم مشرفا على البرامج الإذاعية والنقدية بإذاعة القاهرة. وتدرَّج في وظائفه إلى أن صار مديرا لإذاعة البرنامج الثقافي (البرنامج الثاني سابقا) قبل الإحالة إلى المعاش القانوني. وهو يُعد شاعرًا من أهم شعراء الموجة الثانية أو شعراء جيل الستينيات المصري، بل يعد الآن واحدًا من أهم شعراء الوطن العربي بعامة.
من أبرز أعماله الشعرية: قلبي وغازلة الثوب الأزرق، حديقة الشتاء، الصراخ في الآبار القديمة، أجراس المساء، تأملات في المدن الحجرية، البحر موعدنا، مرايا النهار البعيدة، رماد الأسئلة الخضراء، رقصات نيلية، شجر الكلام، أغاني الماء، وغيرها. فضلا عن صدور مجلدٍ يجمع أعماله الشعرية حتى عام 1985.
وله في المسرح الشعري: حمزة العرب 1971، وحصار القلعة 1984.
وفي المقالات والدراسات الأدبية والنقدية: دراسات في الشعر العربي، فلسفة المثل الشعبي، تجارب نقدية وقضايا أدبية، أصوات وأصداء، تأملات نقدية في الحديقة الشعرية، قصائد لا تموت، ربيع الكلمات، وغيرها.
وعلى ذلك فإن إنتاج أبو سنة الأدبي لم يقف على جانب إبداعي واحد، ولم يقف عند عصر شعري بعينه، ولكن ثقافته الأدبية والشعرية جعلته منفتحًا على كل التجارب الأدبية والإنسانية المحلية والعربية والعالمية، وقارئًا نهمًا في مجالات الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح، إلى جانب الفنون الأخرى.
فنراه على سبيل المثال يتحدث في كتابه "ربيع الكلمات" عن شعراء قدامى ومحدثين، من أمثال: الشريف الرضي، وأبو فراس الحمداني، وابن سناء الملك، وحميد بن ثور الهلالي، وعروة بن حزام، وغيرهم، مثلما يتحدث عن علي محمود طه، وزكي مبارك، وفوزي العنتيل، وعبد الوهاب البياتي، ومحمد الفيتوري، ومحمود درويش، ومحمد عفيفي مطر، وحسن طلب، وغيرهم.
وعندما يفرغ من بعض الشعراء يلتفت إلى عالم النقد والرواية فيتحدث عن بعض أعمال طه حسين، ونجيب محفوظ، ويحيى حقي، ود. محمد عبد المطلب، ود. عاطف نصر جودة، والمازني، وفاروق منيب، وجمال الغيطاني، ود. أحمد عتمان، كما يلتفت إلى حركة الترجمة، فيحدثنا عن ترجمة الشاعر بدر توفيق لرباعيات الخيام، وترجمة أشعار جاك بريفير، وقصائد من الشعر اليوناني الحديث.
وهكذا يكشف لنا محمد إبراهيم أبو سنة ثقافته الأدبية الموسوعية التي أهلته للحصول على عدد من الجوائز من أهمها: جائزة الدولة التشجيعية في الشعر ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1984 وجائزة كفافيس 1990، وجائزة الدولة للتفوق عام 2001، وجائزة النيل في الآداب 2024، وغيرها من الجوائز الأدبية المستحقة، فضلا عن تمثيله لمصر في عدد من المتلقيات الشعرية العربية والدولية.
كما أُعدت عن شعره بعض الرسائل الجامعية الأكاديمية من ماجستير ودكتوراه، وأبحاث ترقي الأساتذة.
وأعتقد أنه لا يوجد كتاب يصدر عن حركة الشعر العربي الحديث أو المعاصر في الوطن العربي، إلا وكان محمد إبراهيم أبو سنة أحد الشعراء المدروسين في هذا الكتاب.
وعلى سبيل المثال، يقول الناقد د. صلاح فضل في كتابه "تحولات الشعرية العربية" عن ديوان "شجر الكلام": "شجر الكلام ديوان طازج للشاعر المصري الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، تتجلى فيه نكهة سنوات النضج في تجربة الحياة، ومذاق خبرة اللغة المعتقة، وهي تستقطر من نبع الإبداع العربي رحيقها المصفَّى، فتطرح على ذاكرة القارئ أطياف التعبير، وأصوات الماضي وقد صار مفعمًا بالحضور الراهن".
تلك كانت بعض الذكريات على شواطئ القصيدة مع الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة وإبداعه الشعري الثري، ومساهمته في الحراك الأدبي والشعري في مصر والوطن العربي، ولا يزال الشاعر يعطي ويشارك ويكتب ويقرأ ويتفاعل بعمق مع قضايا الإنسان والمجتمع العربي والعالمي المعاصر.
التعليقات