ظهرت على الساحة الإعلامية في الآونة الأخيرة الكثير من الآراء المؤيد منها والمعادي لمؤسسة فكرية حديثة المنشأ يُطلق عليها اسم "تكوين"، أعلن مؤسسوها عن رؤيتها حول ضرورة إرساء مبادئ التسامح بين جميع الأديان والأعراق وكذلك المجتمعات؛ وسيتم تحقيق هذه الرؤية بالتخلص من بعض المسلمات وتحريك المياه الراكدة نحو التنوير والتطوير.
هكذا كان وصف فكرة المؤسسة والتي لا خلاف على أهميتها، فالتطوير المستمر من أجل النهوض بالفكر العربي في كل العلوم والفنون أمر منطقي بل وواجب، ولكن التطوير لا يكون بهدم كل الثوابت جملة واحدة والبدء من جديد، فهذا لا يعد ترميما، فبعد الهدم وإعادة البناء من جديد؛ سيفقد البناء أصله وهويته. الترميم يكون بتصليح جزء ما ثبت اعوجاجه عن الأصل.
يمكن نقد مسألة وتحليل أدلتها ومدى صحتها وتوابعها، أيا كانت قوة المسألة ومدى يقين الجمهور بها، فما من مسألة كانت متأصلة في مصر مثل مسألة تقديس زيارات آل البيت والأضرحة المباركة، ولم يُهاجم أحد مثلما هُوجم الشيخ محمد عبده عندما نادى في الناس بوجهة نظره في تحريمها بالأدلة والبراهين، ولكن النتيجة كانت مثلما اعتدنا وهي ظهور الحق وانتصاره وإن كان غريبا غير مألوفا.
ولكن دائما ما يجب التعامل مع المسائل الدينية بحذر شديد، لأن الفتنة فيها قاتلة للمجتمع، فإن ضُرب المجتمع في ضوابطه الدينية فلن يبقى قيمة لأي ضوابط أخلاقية أو إنسانية أو قانونية، ستعم الفوضى وستنهار كل الأسس والمثل العليا.
ولا أحد كبير على الفتنة مهما كبرت ثقافته ومعارفه، فالدكتور مصطفى محمود بكل ما توصل إليه من علوم وآداب تأثر بظاهرة الإلحاد التي نشأت وانتشرت في حقبة الستينيات والسبعينيات؛ جاءه الشك من حيث ظن أنه يأمن، قالوا أن العلم المادي هو الأصل، وبه نثبت أن كل ما حولنا من خلق الطبيعة وتوابع الزمن عليها وأن لا وجود لله، وبالفعل استطاع تفسير كل ما على الأرض من ظواهر بما فيها جسم الإنسان وتركيبه بالعلم، ولكنه عجز أمام تفسير الروح ... ماهيتها، كيف ينبع منها الغضب والفرح والطموح والحماس واليأس والرغبة، ومصيرها بعد الموت وفناء الجسد، فعاد إلى إيمانه أشد وأقوى، وتقبلنا منه ذلك لأنه كان صادقا ... صادقا حتى عند ذنبه.
ولكن إذا لمسنا تناقضا في حديث أحد النقاد فكيف لنا أن نتقبله؟ عندما أوصل الإعلامي عمرو أديب آراء بعض العامة إلى أحد مؤسسي "تكوين" المفكر والباحث إسلام البحيري كان رده دائما: "هؤلاء غوغائيون، هذا رجل يهذي وأنا لا أرد على الهذيان"، فقال له عمرو أديب: "وهو يرى أنك تهذي."، لينفعل إسلام البحيري قائلا: " أنا أملك دليل على هذيانه ولكن هو لا يملك دليل على هذياني.".
أحد مؤسسي "تكوين" المطالب بتغيير الثوابت صاحبة آلاف الدلائل المؤكدة والمؤمن عليها منذ أكثر من ألف عام، يؤمن بالدلائل وأن لا قيمة لرأي بلا دليل. يطالبون باحترام الآراء ووجوب سماع الرأي المعارض وهم بعيدون كل البعد عن هذا الاعتقاد.
يأتي أهم ما يتم مهاجمته حاليا في السنة النبوية والصحابة ورواة الأحاديث، وهذا يعود بنا إلى الأصل. "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ..." صدق الله العظيم. إن الدين الإسلامي هو الدين الخاتم لما سبقه من أديان سماوية، وهو محفوظ برعاية من الله سبحانه وتعالى، وهو من اختار حامله إلى الناس وهو الأعلم به، وهو من اختار أصحابه ومسانديه الأوائل وهو الأعلم بهم، وهو من اختار ناقليه عنهم إلى يومنا هذا، وهو المتحكم فينا وفي الدنيا، لنا الحرية والاختيار في دائرته وتحت سيطرته فإن حدنا عن الصواب بلا رجعة، فله أساليبه في التخلص من أي فتنة على الأرض من جذورها.
رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غير خطأ يحتمل الصواب، فإن كان الغرض فتنة فلا خوف، فلا أنا ولا أنت ولا أي مخلوق على الأرض يستطيع المساس بما هو في رعاية الله، وإن كان الغرض هو الوصول إلى الحقيقة، فلك الحرية وكلنا آذان صاغية وألسنة ناقدة.
التعليقات