مَن منا لا يعلم مأساة حادث دنشواي، التي بدأت أحداثها في 13 يونيو 1906 في قرية دنشواي بمحافظة المنوفية، وفيها صدرت أحكامٌ قاسية بحق 21 فلاحًا، إذ حُكم على أربعة منهم بالإعدام شنقًا، وعلى الآخرين بأحكامٍ تتراوح بين سبع سنوات إلى المؤبّد، بعضها مصحوب بالأشغال الشاقة وبالجلد. والأدهى أن أحكام الإعدام والجلد نُفِّذَت في قرية دنشواي نفسها، على مرأى ومسمَع من أسَر وأقارب المحكوم عليهم، وكانت محكمة العار المشكلة خصيصًا لهذه القضية أكبر دليل على وجود أسماء رنانة تحمل الجنسية المصرية لكن تجري في عروقها دماء فاسدة.
وإن كانت دنشواي على ما تثيره في النفس من آلام، إلا أنها لا تعد مأساة أو فاجعة مقارنة بمأساة دير مواس، فإن أُعدِم في دنشواي أربعة، ففي ملحمة دير مواس تم إعدام 34 مواطن مصري.
بدأت أحداث ملحمة دير مواس مع أحداث ثورة 1919 حينما تصاعدت الأحداث في كل ربوع مصر عند القبض على سعد زغلول ورفاقه ونفيهم إلى جزيرة مالطا ومنعهم، كفصيل وطني، من المشاركة في مؤتمر الصلح العالمي الذي سيعقد في أوروبا لتقرير مصير الشعوب بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
بدأت أحداث الثورة في صباح يوم الأحد 9 مارس 1919، بقيام الطلبة بمظاهرات واحتجاجات في أرجاء القاهرة والإسكندرية والمدن الإقليمية. تصدت القوات البريطانية للمتظاهرين بإطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى. استمرت أحداث الثورة، حتى اليوم المشهود، يوم 18 مارس حينما خرج أبناء دير مواس التابعة لمحافظة المنيا للتعبير عن تضامنهم مع الرأي العام المصري المؤيد لسفر سعد باشا ورفاقه والرافض للموقف الإنجليزي المتشدد، وكان من بين أبناء دير مواس الدكتور خليل أبو زيد على، الذى عاد إلى مصر بعد حصوله على الدكتوراة من جامعة لندن، قبل قيام ثورة 1919 بأربعين يوما، وتم الاتفاق بقيادة خليل على أن يعبر «أهل البلد» عن رفضهم الاحتلال وموقفه، وذلك من خلال مسيرة تنتقل إلى محطة القطار، وكان مخططا أن يلقى الدكتور خليل خطبة بالإنجليزية التى يجيدها بطلاقة، ومعه آخرون يلقونها بالعربية، وحينما انتقلت هذه المظاهرة فى 18 مارس 1919 إلى محطة السكة الحديد، جاءت معلومات عن طريق عناصر وطنية فى البوليس وفى السكة الحديد أن المستر «بوب»، مفتش السجون الانجليزي سيأتي فى هذا القطار، وبالتالي تم وضع الخطة لإيقاف القطار بالقوة، على أساس أن يلقى خليل كلمة يرفض فيها الاحتلال ومعه «أهل البلد» كجزء من منظومة المقاومة على مستوى مصر.
لكن الموقف تطور وتحول إلى حادث عنيف لأن الإنجليز بادروا بإطلاق الرصاص على الثوار، وبالتالي تصاعد الموقف وتم الهجوم على القطار وتم قتل كل من فيه من الإنجليز، وكانوا ثمانية. وطبيعي أن يتوقع الثوار رد الفعل من قوات الاحتلال البريطاني، وبالتالي حدث مشهد من مشاهد الوحدة الوطنية وكان تضامنا تلقائيا وحقيقيا بين المسلمين والمسيحيين، فقد نادت مآذن «دير مواس» على كل الأهالي بأن يجتمعوا فى مسجد أولاد محمود، وهو مسجد تابع لعائلة أبوزيد، وتم إحضار مصحف وإنجيل، فالمسلم يحلف على المصحف والمسيحي يحلف على الإنجيل، وكان يمسك بالإنجيل قس وبالمصحف شيخ، والقسم كان على عدم الخيانة والتماسك ضد الإنجليز وعدم الإبلاغ عن الثوار، فقد كان هناك خوف من أن تحدث خيانة من الداخل، لأن الخارج مقدور عليه، وما تزال أحداث محاكمة دنشواي في الأذهان، وأقسم الناس فى مشهد من مشاهد الوحدة الوطنية.
جاء الإنجليز وحاصروا دير مواس بالأسلحة والجمال والكرابيج، وكانت القوات البريطانية عازمة على أن تمثل بأهل القرية الذين تجاوزوا خطوطها الحمراء، فتم حصار دير مواس، ولم يكن أحد من الإنجليز يعرف وجوه المطلوبين وفقا للقائمة التى سرّبها لهم أحد الأشخاص الخائنين، فلم يكن لديهم سوى أسماء الثوار فقط، ودخل قائد القوات الإنجليزية إلى القرية وهو يتحدث بالإنجليزية، ولم يكن أحد من أهل القرية يتحدث بلغتهم سوى الدكتور خليل أبو زيد، الذى قابل القائد قائلا: «إنتو عايزين إيه؟ فرد القائد: «إحنا جايين نقبض على المجرمين والثوار»، ولأن خليل كان ذكيا فقد أقنع القائد بأن يُطلعه على قائمة الأسماء المطلوبة، حتى يدله عليهم، فقرأ القائمة عدة مرات حتى حفظ الأسماء المطلوبة، ثم بعد أن اطمأن من أنه حفظ كل الأسماء المكتوبة فى القائمة، قال للقائد الإنجليزى: «أهل القرية فلاحين بيروحوا للغيطان الصبح ويرجعوا المغرب، فلو دخلتوا دلوقت مش هتلاقوا حد والأفضل إنكم تدخلوا بالليل عشان كلهم هيكونوا رجعوا من شغلهم»، فاقتنع القائد بكلام خليل، وشكره على هذه النصيحة الغالية ووعده بمكافأة كبيرة، وفى الليل دخل الإنجليز القرية واكتشفوا الخدعة وأن خليل الموجود على رأس قائمة المطلوبين هو الذى كان يحدثهم ويقدم لهم المشورة. وأنه هرب وقام بتهريب كل المطلوبين من الثوار وأهل القرية، فثار الإنجليز وحاصروا القرية وأوقعوا بأهلها أشد أنواع التنكيل والتعذيب، وكانوا يعتدون على النساء ويحرقون المنازل، حتى «بلاصات» العسل والسمن التى كانت موجودة فى بيوت الفلاحين كسروها.
حتى تم تشكيل محكمة عسكرية بريطانية وتم تقديم 91 مواطن من أبناء دير مواس كمتهمين، 91 من الأعيان وذوي الأملاك، وثلاثة من ضباط البوليس، وعمدة، وشيخا بلد، ومحام، ومدرس، وأربعة من الطلبة، وجمع من المزارعين والصناع، ولدينا أسماء الـ 91 متهم في مأساة دير مواس، ولكني سأكتفي بتخليد أسماء الـ 34 شهيد الذين تم إعدامهم، من بينهم بالطبع خليل أبو زيد على، وأذكر إن اخوات خليل كانوا من ضمن المدانين، محمد أبو زيد على وقد حكم عليه بالأشغال الشاقة 15 سنة، وشقيقهم عبد الملك أبو زيد على، لكن القائد العام ألغى الحكم الصادر في حقه وعفى عنه.
انعقدت المحكمة العسكرية البريطانية العليا في أسيوط بداية من يوم 17 مايو 1919 وكانت مؤلفة من سبعة أعضاء من ضباط الجيش البريطاني، وتولى الدفاع عن المتهمين جمع كبير من المحامين، واستمعت المحكمة إلى شهادة 51 شاهد إثبات، وإلى 155 شاهد نفي، وانتهت المحاكمة خلال شهر تقريبا، وبالتحديد يوم 19 يونيو 1919 بالحكم على 91 مواطن مصري من أبناء دير مواس، بالسجن والحبس لسنوات وسنوات والجلد لبعضهم، فقد حُكِم على أبو المجد أفندي محمد الناظر نائب المأمور، ومصطفى أفندي حلمي ملاحظ بوليس دير مواس بالحبس سنتين، ويجلد عبد العال عمر عشر جلدات، والإعدام كما ذكرتُ لـ 34 شهيد، هم "عبد العليم فولي، عبد المجيد فولي، محمد مرسي شحاتة، محمد مرسي محجوب، عبد الحكيم عبد الباقي، فرغلي محمد مبارك، عبد اللطيف على عبدالله، تغيان سليمان حسان، عبد الجابر حمدان موسى، عبد الباقي على حامد، عبد الله محروس، عبد الملك فرحات، راغب سويفي على، أبو المجد محمد عبد الله، عبد الملك سليم إبراهيم، راغب عبد العال هلال، عبد الدايم عبد الرحيم، محمد على مكادي، خليل أبو زيد على، عبد الرحمن حسن محمود، عبد العزيز عثمان شرابي، أحمد إبراهيم موسى الصعيدي، عباس عبد العال البحيري، عباس عبد العال الفلاح، أحمد عثمان، أحمد محمد إبراهيم، عبد الجابر أبو العلا، إسماعيل الدباح، قاسم محمد فايد، محمد أبو العلا، سيف أحمد عبد الله الغرابي، هلالي جنيدي، عبد السلام أبو العلا، محمد إبراهيم عبيد.
وتحولت دير مواس إلى حزن وحداد عام بعد تنفيذ حكم الإعدام في هذا العدد الكبير (34 شهيد)، فلم يكن هناك بيت في القرية تقريبا بلا حزن، ولا ننسى أن قرية مثل دير مواس في هذا التوقيت، ويمكن حتى اليوم، تعتبر عائلة واحدة تربطها صلات القرابة والمصاهرة.
غير أحكام السجن والجلد التي تمت في مجاهرة وإذلال، بشكل يجعل كل أهالي القرية أصحاب ثأر حقيقي مع جنود الاحتلال البريطاني. ثأر وحالة من الاحتقان والمرارة يتوارثها أبناء شعب دير مواس وأبناء الشعب المصري.
وحتى اليوم تثير مأساة دير مواس في النفوس ما تثيره مأساة دنشواي، وغيرها من الحوادث المؤلمة التي راح ضحيتها أبناء الوطن الذين لم يكن لهم غير هدف واحد، حرية أبناء هذا الوطن واستقلاله.
التعليقات