فور عودتي من باريس، قررت قراءة ـ وإعادة قراءة ـ ما كتبه الأدباء العرب عن باريس، لمعرفة كيف ظهرت باريس ـ تلك المدينة الساحرة ـ في أعمالهم وكتاباتهم. ومن هذه الأعمال التي قفزت إلى ذهني على الفور: الحي اللاتيني لسهيل إدريس، وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وبطبيعة الحال، تخليص الإبريز في تلخيص باريز لرفاعة رافع الطهطاوي، وذكريات باريس للدكتور زكي مبارك، وغيرها من الأعمال والمؤلفات.
ومن حسن الحظ أن أجد ـ فور عودتي ـ طبعة جديدة من كتاب الدكتور زكي مبارك "ذكريات باريس" صدرت عن سلسلة كتاب الهلال (عدد أغسطس 2002) بتقديم للدكتور محمد رجب البيومي. وكانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب صدرت في أغسطس 1931، وأهداه المؤلف إلى الأستاذ عبد القادر حمزة. وعنوان الكتاب كاملا هو "ذكريات باريس ـ صور لما في مدينة النور من صراع بين الهوى والعقل والهدى والضلال". وقد صدَّر البيومي تقديمه بكلمة صاحب الرسالة أحمد حسن الزيات عن الدكتور زكي مبارك، التي سبق نشرها في مجلة الرسالة ـ العدد 287 ـ الصادر في 2 يناير 1939.
والكتاب (304 صفحات) وصفته دار الهلال بأنه من أنفس الكتب للدكتور زكي مبارك، وهو يحتوي على ذكرياته ومذكراته وخطاباته، إلى جانب آرائه في الآداب والفنون، وبعض أشعاره، في الفترة التي كان يتلقى فيها العلم في السربون على مدى خمس سنوات (1927 ـ 1931) تجول خلالها في ربوع فرنسا، وخبر حنايا باريس ودروبها وناسها وفنونها وآدابها، وكشف اللثام عن أسرارها، والجانب الآخر من تلك المدينة المثيرة التي تجمع بين المتناقضات، بين الحب السامي، والحب الحسي، وبين العلم والبوهيمية.
أكثر من سبعين عاما مضت على الرحلة الباريسية لزكي مبارك، وعلى الرغم من ذلك، فمن يقرأ كتابه، يظن أنه كُتب هذا العام، فباريس لم تتغير كثيرا عما شاهده مبارك، وإنما احتفظت هذه المدينة بسحرها ورونقها، ومازالت تحتفظ بأسرار جمالها وشبابها، لا تبوح به لأحد من الأدباء والشعراء، ومن هنا يأتي سر غموضها الساحر. فباريس هي باريس، ولكن تختلف النظرة إليها من إنسان إلى آخر، ومن عاشق إلى آخر، فها هو زكي مبارك (الذي قال في معرض كتابه: لكم باريس، وليَ باريس) يكتشف الحب الأثيم في باريس، وهو الحب الذي تغلب فيه الدعارة والفجور، وقد ينظر شخص آخر لهذا الحب على أنه تحرر من التقاليد والعادات التي تكبل الإنسان. يقول زكي مبارك: "وإنك لتدخل حدائق باريس في المساء، فتجد مئات العشاق متعانقين فوق المقاعد مظللين بالأشجار المورقة، ومحروسين بالحشائش الخضر" ثم يعود فيقول في العبارة التالية لهذه العبارة مباشرة، "وكم من مرة تأملت هذه المناظر المريبة وأنا وافر الإعجاب بما يملك أهل باريس من أسباب الحرية المطلقة التي لا نجد قبسا من شعاعها في مصر".
هكذا تمضي معظم مقالات هذا الكتاب، في البحث عن حقيقة الحب عند أهل باريس، ومقارنتها بحالة الحب في الشرق العربي، أو على وجه التحديد في مصر، فبعد الحب الأثيم في باريس، نجد الحب في باريس وفي ليفربول، ثم صيد القاهرة أم صيد باريس، وغانيات الحي اللاتيني وبعض الحقائق البشعة في مدينة النور، وملاهي طلبة الطب، وعودة الجنس اللطيف، وقلب المرأة، وعيد الملاح في باريس، ونجوى القلب على شاطئ السين، وغيرها من المشاهدات والمقالات والخطابات وأبيات الشعر التي تتحدث عن صور لما في مدينة النور من صراع بين الهوى والعقل والهدى والضلال، كما جاء في عنوان الكتاب.
ولكنه إلى جانب ذلك، يتحدث عن معالم أخرى وأحداث مغايرة في باريس، مثل شهداء السين، أو شهداء الفقر، حيث حوادث الانتحار التي تتكرر في باريس، نتيجة استقدام العمال الفقراء من الأقاليم الفرنسية، ثم تركهم بلا ناصر ولا معين. وهو يخصص لذلك مقالا بعنوان "حياة العمال في باريس" أما في مقاله "شهداء السين" فيكشف عن معدن الإنسان الغربي عموما الذي لا تهزه حوادث الانتحار هذه، فلقد أدهشه أن رجال الإسعاف كانوا يتضاحكون أحيانا وهم يجرون عملية التنفس الاصطناعي لأحد المنتحرين، بل يتبادلون بعض النكات في طمأنينة وهدوء. هنا تكون باريس أشبه بالطاحونة العاتية، فيناجيها مبارك بقوله: "باريس أيتها الطاحونة العاتية! أيتها الدنيا الغادرة! كم فيك من قلب مفطور! وكم فيك من دم مطلول! ومع ذلك لا تزالين أمل الآمل وأمنية المتمني، ومأوى ما ند وشرد من ألباب الشعراء وعباقرة الفنون".
من مشاهدات زكي مبارك في باريس، مسجد باريس، أو جامع باريس الذي تزدان جدرانه وسقوفه بالنقوش العربية الدقيقة، فضلا عن الأحواض المائية البديعة التي تذكر المرء بأفنية المساجد الأندلسية، وزيارة هذا المسجد في باريس تهدئ الروح الظامئ إلى سلسبيل السلام والسكون. يقول زكي مبارك في مقال بعنوان "صلاة الجمعة في مسجد باريس": ما شهدت باريس إلا خطر بالبال ما يجب على المؤمن من الرجوع إلى ربه لحظة أو لحظتين في هذه المدينة العجيبة التي طغت على كل ما تصوره الأقدمون من نعيم الجنان، وكان يرضيني في تهدئة الروح الظامئ إلى سلسبيل السلام والسكون أن أذهب إلى جامع باريس فأطوف به ساعة من الزمان ..".
وهو يضمِّن بعض مقالاته آراءه النقدية في الأدب والشعر، ففي مقال بعنوان "سهرة في قهوة الجامع" حيث الموسيقى الشرقية تصدح في هذا المكان اللصيق بجامع باريس، ويصدح المغنون العرب من تونس وبغداد والإسكندرية (يقصد العواد الشيخ عبده درويش) فيهتز طربا لهذه الموسيقى والألحان والأدوار، لا ينسى أن يوجه حديثه للشعراء العرب المنصرفين عن الموسيقى والغناء، فيقول لهم: "وانصرافكم عن الموسيقى والغناء هو سبب تخلفكم في الشعر، فقد أصبحت شياطينكم مستأنسة لا تفزع إلى واديها الأول، وادي الجن أو وادي عبقر الذي نُسبت إليه العبقرية، كما أن السر في نبوغ شوقي هو تهالكه الفاضح على الموسيقى والغناء، ولولا السهرات الطروبة المجنونة التي يقضيها شوقي في بيئات اللهو والطرب والتمثيل والغناء لمات شيطانه منذ أزمان!". لكنه على الرغم من ذلك يأخذ على شوقي قوله:
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
لأنه جعل حوادث الحب أشبه بالمناظر السينمائية: تتجمع وتتفرق في سرعة البرق، مع أن الحب كسائر الأمراض له أدوار مختلفة يعالجها المصاب رويدا رويدا إلى أن يعز الشفاء.
ولزكي مبارك رأي مهم في التفرقة بين الأدباء وأساتذة الآداب "فرجال الأدب حين يشتغلون بالترجمة أو التأليف يوجهون جهودهم إلى المسائل التي تمس أذواق الجماهير ومشاعرهم وعواطفهم، بنوع خاص، فهم ذلك يهتمون بالقصص والروايات، وما إلى ذلك مما يستطيب الجمهور الإقبال عليه في أوقات الفراغ. أما أساتذة الآداب فيحرصون على التأليف في الموضوعات الصعبة المعقدة التي لا تجد من يقبل عليها غير الطلبة والمدرسين، ومن شاكلهم من عشاق البحث العميق". ولعل رؤية، أو رأي زكي مبارك في هذه المسألة، هو رأي الجمهور الفرنسي نفسه الذي يرى أن هذا الفرق الرسمي بين الفريقين له دلالته وله معناه، فرجال الأدب لا يصلون إلى المكاسب المادية إلا عن طريق الصحافة والتأليف وإلقاء المحاضرات، أما أساتذة الآداب، فلهم مناصبهم وكراسيهم في وزارة المعارف وفي المعاهد والكليات، ومن الصعب الحكم بأفضلية أولئك أو هؤلاء.
وإذا كان سهيل إدريس قد ألَّف في الخمسينيات من القرن الماضي، رواية كاملة بعنوان "الحي اللاتيني" (صدرت طبعة شعبية جديدة منها في القاهرة في العام الماضي 2001 عن سلسلة "آفاق عربية" التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة) فإن الحي اللاتيني عند زكي مبارك هو حي الشباب في باريس، "هو حي الشباب بأجمل وأشرف وأبلغ ما تنطلق به هذه الكلمة، وليس في الدنيا التي رأيناها بأعيننا أو سمعنا عنها بآذاننا أو قرأنا أخبارها في أساطير الأولين، ليس في الدنيا كلها بقعة تتفتح فيها أزاهير الشباب وتندى أوراقه، وتتمايل أغصانه، ويتأرجح عبيره، كما يرى رواد الحي اللاتيني في باريس".
ويتوقف زكي مبارك عند اسمي الإشارة للمذكر والمؤنث، هذا وهذه، فهل نقول هذه باريس، أم نقول هذا باريس؟. ويفند مبارك زعم الشرقيين في قولهم هذه باريس بصيغة التأنيث، فهم يقولون "باريس الجميلة الفتانة"، أما الفرنسيون فيعطون لعاصمتهم القوية صيغة المذكر، فيقولون "باريس القوي القهار". ويذهب زكي مبارك إلى أن السبب هو توهم الشرقيين أن هذه المدينة مدينة اللهو والدعارة والفسوق، فهم لذلك يعطونها اسما لينا مؤنثا يتناسب مع ما يحسبونه ينهار فيها من أركان الأخلاق. أما الفرنسيون فيعرفون فضل عاصمتهم ويعلمون أنها قوية جبارة غالبت الأعداء، ونازلت الخطوب زمنا غير قليل، ثم ظفرت من ذلك كله بمجد باق خالد تغلب عليه سما البشر والابتسام، إذ لم يعد في حاجة إلى التبرم والعبوس. وهو يرى ما يراه الفرنسيون، فيقول هذا باريس، ولا يقول هذه باريس.
وإذا كان بيرم التونسي له ذكريات في باريس، أودعها أزجاله الشهيرة، بعد أن نفي أو طرد إليها، بسبب كتاباته في "المسلة" وأزجاله في الطبقة الحاكمة، فإن زكي مبارك يودع في كتابه هذا ذكرياته مع بيرم التونسي حين التقى به مصادفة في إحدى الحدائق الصغيرة التي يؤمها الناس من جميع الطبقات، والتي يتوسطها تمثال فولتير، فقد رأى زكي مبارك ـ في هذه الحديقة ـ شخصا يحمل رزمة من الجرائد المصرية، فأراد أن يعرف من هو، فسأله:
ـ أنت هنا منذ زمان أيها الأخ؟
ـ منذ عشر سنين!
ـ عشر سنين؟ وماذا تصنع؟
ـ عامل في أحد المصانع
ـ وما الذي ابتلاك بهذه الجرائد وأنت عامل؟
ـ هذه بلوى قديمة؟
ـ منذ متى؟
ـ منذ كنت أحرر المسلة. فأنا محمود بيرم التونسي.
ـ أهلا وسهلا
ـ وحضرتك؟
ـ زكي مبارك
ـ أنت الدكتور؟ الله يسامحك! كيف نسيت أن ترسل إلي نسخة من كتاب الأخلاق عند الغزالي .. لا .. بل كيف استبحت لنفسك أن تهاجم ذلك الفيلسوف ..
حقا أنها ذكريات باريس، أمتعنا بها الدكتور زكي مبارك بقلمه الرشيق وأسلوبه المتميز المبدع، نختمها ببيت شعر له يقول فيه:
ستأسو عذارى النيل آثار ما جنت عليك عذارى السين حين تعودُ
التعليقات