ظهري لا يزال يؤلمني من ضربة الشومة (عصا غليطة) عليه، أثناء المشاركة في انتفاضة 18 و19 يناير 1977، التي أطلق عليها الرئيس السادات "انتفاضة الحرامية".
أخبرتني درية إبراهيم أن غدا 18 يناير ستكون هناك مظاهرات وانتفاضة شعبية بسبب غلاء المعيشة ستخرج من الترسانة البحرية، ويجب علي أن أشارك فيها باعتباري شاعرا يشارك الشعب همومه وآلامه وأوجاعه. أعطتني ورقة فيها بعض الشعارات التي سيرددها المتظاهرون. طلبت مني أن أُضيف إليها شعارات أخرى. قرأتُ الورقة:
يا ساكنين القصور .. الفقرا عايشين في قبور
يا حاكمنا في عابدين .. فين الحق وفين الدين
سيد مرعى يا سيد بيه .. كيلو اللحمة بقى بجنيه
ـ إنها شعارات مباشرة ليست فيها لمسات فنية.
ـ هل تظن أن هذا شعر. طبعا لا. أقول لك: شعارات مثل شعارات ثورة 1919 وشعارات الحركة الطلابية ضد عبدالناصر في عام 1968، أم أنك لا تعرف شيئا عن تلك الشعارات؟
مزقتُ الورقة التي أخذتُها من درية، فغضبت مني، لكنها فرحتْ عندما قلت لها: أنا معكم غدا. قالتْ وأنا سأتصل بعد نجاح الثورة بالأستاذ لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة "الطليعة" لتنشر شعرك هناك، بدلا من المجلات التافهة التي تنشر فيها.
ذهبتُ صباحا إلى الكلية. وجدتُ تحركاتٍ غير عادية على مستوى المجمع النظري للكليات. تجمعاتٌ طلابية ضخمة، لم أجد أحدًا من الطلاب الملتحين.
وسط هذه الجموع التقطتني درية مبتسمة، سألتني: جاهز؟
قلتُ لها في توجس: جاهز.
ـ عندما تحين ساعة الصفر سأشير لك كي ننطلق مع الجماهير.
ـ تمام.
لم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي مع مئات الطلاب مندفعا اندفاعا ذاتيا خارج أسوار الكلية، ملتحما مع أعداد غفيرة من عمال شركة الترسانة الذين كانون يرددون الهتافات والشعارات التي قرأتُها في الورقة قبل تمزيقها. كانت تسيرُ إلى جانبي "خشبة عمود عبدالواقف" التي تحولت إلى عود كبريت مشتعل من فرط الحماس والهتاف ولذة المشاركة الجماهيرية.
وصلنا إلى الشلالات لنلتحم مع طلاب كلية الهندسة القادمين من شارع أبوقير، وجدنا قوات الأمن المركزي تتصدى لنا بالهراوت والعصي قرب قسم باب شرقي، ونحن نواصل التقدم والزحف. لم أشعر إلا بضربة تأتيني من الخلف أوقعتني على الأرض، وعبر فوق جسدي عشراتٌ من المتظاهرين الذين هرولوا بسرعة، لكني قاومت. لم أفقد الوعي.
لم أدر هل الضربة كانت من أحد أفراد الأمن المركزي، أم من أحدٍ آخر؟
ساعدني أحد عمال الترسانة البحرية على النهوض سريعا. انتحى بي جانبا، ثم انطلق الى المظاهرات. وجدتُني داخل حدائق الشلالات. تحاملت على نفسي واتجهت جنوبا إلى استاد البلدية، فشارع منشا، لم تكن المظاهرات قد وصلت إلى هناك بعد.
استوقفني في شارع محرم بك وأنا أعبره إلى شارع الاسكندراني رجلٌ سألني: هل انت يا بني كنت في المظاهرات؟ خفت اقول له نعم فيقبض علي.
لكن واجهه شخص آخر قائلا: ألا ترى شكله، أكيد كان في المظاهرات.
نظر اليَّ الرجل الأول بنوع من الشفقة عندما وجدني أتوجع من آلام ظهري، والدموع تملأ عينيه، مرددا: أكيد محمد ابني هناك أيضا.
بعد برق ورعد وغمام كثيف أمطرت سماءُ الإسكندرية بشدة. تحاملتُ على نفسي حتى وصلت البيت في شارع الإسكندراني. دخلت متألمًا في صمت، قالت والدتي: أرأيت الذي يجرى بالشوارع، سمعنا أن هناك مظاهرات والحمد لله انك أتيت. أبوك كان مشغولا جدا عليك.
في مساء اليوم نفسه تم عرض مسرحية "مدرسة المشاغبين". التف أغلب الناس حول التلفزيون، نسوا المظاهرات والانتفاضة والثورة الشعبية.
هدأت الدنيا بعد عدة أيام. ذهبتُ في حذر إلى الكلية. علمتُ أنه تم القبض على درية إبراهيم ومحمود إبراهيم. إذًا لن يكون هناك اتصال برئيس تحرير مجلة "الطليعة". لن أنشر قصائدي بها.
ما شغلني في هذا الأمر كيف عرفتْ درية إبراهيم صبيحة يوم 17 يناير، أن في الغد ستخرج المظاهرات. رئيس الوزراء عبدالمنعم القيسوني خطب في مجلس الشعب مساء يوم 17 يناير، ورُفعت الأسعار مما أغضب الشعب فخرجت المظاهرات صبيحة اليوم التالي.
كيف عرفتْ درية إبراهيم .. هل هي ....؟
وماذا كنتُ سأكتبُ عمَّا حدث لو أنني رئيس لتحرير جريدة حكومية؟ ماذا كنتُ سأكتب لو أنني رئيس لتحرير جريدة معارضة؟
التعليقات