ستة أشهر مرت على آخر اتصال تليفوني من رئيس التحرير. قال لي: لا تغامر بتقديم استقالتك من عملك في مصر، فأمامنا وقت طويل لإنهاء إجراءات عملك لدينا، فالأمر ليس بالسهل أو اليسير.
قلت له: لن أقدم استقالتي، وإنما سأتقدم بطلب للحصول على إجازة بدون مرتب من عملي فور وصول ما يفيد التعاقد معكم.
لم أخبر أحدا بأنه جاري تعاقدي مع مجلة خليجية، خاصة أصدقائي القاهريين الذين من المؤكد سوف يحاولون خطف هذه الفرصة وترشيح أحد منهم، فقد جربتهم مرات كثيرة، ولُسعت منهم.
ومن هذه المرات، أحد المهرجانات الشعرية بالخليج، عندما جاء مندوب المهرجان إلى القاهرة، يحمل أسماء عدد من الشعراء المصريين للمشاركة في المهرجان، وكان اسمي مدرجا في كشف الشعراء المرشحين، وعندما سأل شاعرا قاهريا عني قال له: لا نعرفه، يبدو أنه شاعر مغمور من شعراء الأقاليم، لكن لدينا فلان وفلان.
بعد سنوات التقي هذا المندوب في بلده الخليجي، فيذكر الواقعة، وأنه التقى فلانا وقال ما قاله. ابتسمت ولم أعلق فقد كان الشاعر القاهري من شعرائي المفضلين الذين التقي بهم دائما كلما ذهبت إلى القاهرة، ويعرفني تماما ومعه رقم تليفوني.
مرة أخرى عندما رشحني رئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة للسفر مع شاعر آخر من الإسكندرية لتمثيل مصر شعريا في مهرجان يُعقد سنويا في فرنسا يسمى مهرجان لوديف لشعراء البحر المتوسط. ولكن في آخر الأمر تم استبدالنا بشاعرين آخرين من القاهرة.
مرت الأيام. لم يتصل بي رئيس التحرير، كدت أنسى السفر والعمل، وانهمكت في القراءة والكتابة وحضور الندوات والمشاركة في المهرجانات، إلى أن رشحني أحد الأصدقاء للمشاركة في افتتاح المركز الكوري للثقافة العربية والإسلامية في كوريا الجنوبية. وهناك التقينا بعدد آخر من المشاركين العرب، كان من بينهم رئيس تحرير المجلة التي سأعمل بها، والذي كان يكلفني بطريقة غير مباشرة بكتابة تقارير وانطباعات عن الرحلة وعن البرنامج، وينبهني إلى ضرورة التقاط الكثير من الصور ومن زوايا مختلفة، رغم وجود محرر آخر معين في المجلة معه، لم يكن يفارقه إلا عند نومه. أحس هذا المحرر بخطورتي عليه وعلى مكانته وحظوته، فأخذ أحيانا يتقرب مني، وأحيانا يهملني ويتجاهلني، حتى يتضح له من أنا.
بعد العودة من الرحلة الكورية بأيام، جاءني اتصال تليفوني من مكتب رئيس التحرير، أخبرتني سكرتيرته بأن أُجهِّز نفسي للعمل بالمجلة، فقرار التعيين على وشك الصدور. شكرتها، وأخذت أُعدُّ العدة.
على الرغم من زياراتي المتعددة للخليج، وعملي السابق بالرياض فقد أدركت أن هذه المرة الأمر مختلف، صحيح أنني عملت رئيسا لتحرير عدد من المجلات من قبل، لكنها كانت مجلات شديدة المحلية، أو شديدة الإقليمية.
كانت أول مجلة أرأس تحريرها، مجلة حائط عندما كنت طالبا في كلية التجارة جامعة الإسكندرية، كان اسمها "دعوة للتأمل"، لم أعرف الآن لماذا اخترت هذا الاسم. كانت مجلة الحائط الوحيدة التي يستمر تعليقها لأسابيع حتى صدور العدد التالي، بينما مجلات أخرى يصدرها زملاء آخرون لم تعلّق سوى يومين على الأكثر. لا أحد يعرف من الذي كان يرفعها أو يمزقها من على حائط الكلية المخصص لنشر مجلات الحائط.
كنت أنشر في هذه المجلة الحائطية التي كنت أعدّها بنفسي وأكتبها بخط يدي، قصائد لي، ولغيري من الأصدقاء الشعراء من جيلي، ومختارات من شعراء مصريين وعرب آخرين. فهل هي دعوة موجهة لطلاب الكلية والكليات المجاورة بالمجمع النظري بالشاطبي للتأمل في معاني الشعر والإبحار إلى عالم الشعراء؟ بالفعل كانت هناك تعليقات يكتبها بعض الطلبة على أماكن مختلفة من المجلة الحائطية.
ذات مرة وأنا أعلق عددا جديدا من أعداد المجلة، وجدت زميلة تقف بجانبي وتقول لي: طبعا لا بد أن يتركوا مجلتك بالأسابيع معلقة، وتُمزَّق مجلتنا فور تعليقها. قلت لها: هل يمكنني أن أتعرَّف عليكِ.
لم تذكر اسمها ولكن أكملت حديثها، قالت: هل تفكر أن هذا الذي تكتبه أو تنشره شعرا؟
ـ أعتقد أنه شعر.
ـ ليس شعرا، الشعر لا بد أن ينبع من موقف سياسي مثل شعر أمل دنقل ونجيب سرور وأحمد فؤاد نجم وناظم حكمت وبابلو نيرودا، أما هذا الكلام الذي تنشره ليس شعرا ولا أي حاجة.
قلت لها بدون أدنى انفعال: إذًا العدد القادم ننشر قصائد لأمل دنقل فأنا قرأت ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".
التمعت عيناها، لكنها قالت: لن تستطيع. لأنهم سيمزقون مجلتك على الفور.
ـ مَنْ تقصدين؟
ـ إذًا أنت لا تفهم شيئا. أدعوك لحضور اجتماعنا في "جمعية الدراما" يوم الجمعة بمحطة الرمل.
ـ من أنتم؟
نظرت حولها وقالت هامسةً: نحن مجموعة اليسار بالكلية، وزميلنا محمود إبراهيم شاعر أيضا وهو الذي أرسلني إليك. يقول إنك خامة طيبة وغير مشترك في أي جماعة سياسية. لو لم تعرف المكان انتظرك عند الرملي بائع الكتب عند سنترال محطة الرمل ونذهب معا.
ـ أنا لا أعرف محمود إبراهيم.
ـ هو يعرفك. سمعك في أمسية شعرية بقصر ثقافة الحرية، ويعرف الشعراء الكبار هناك.
ـ انا سأحضر معكم لأجلك انتِ، ولكن ما اسمك؟
ـ انا اسمي درية إبراهيم.
ـ اخت محمود إبراهيم؟
ـ لا .. تشابه أسماء.
أخذت أفكر في درية. نسيت موضوع مجلة الحائط والقصائد وجمعية الدراما. قلت إنها قصيدة خفيفة الوزن في حد ذاتها.
كانت درية ابراهيم على قدر متوسط من الجمال، ذات شعر أسود قصير، لكنه ليس ناعما ولا يطير، مُسرح على نمط الأربعينيات، وعينين سوداوين متسعتين وبرّاقتين، كلها حدة وذكاء. كانت نحيفة جدا. مخلوق ضئيل وصغير، ساقاها نحيلتان كسِلْكٍ سميك، وقد تلتويان في أي لحظة، وصدرها مسطح تماما. كيف يتسنى لرجل ما أن يدخل فيها، وهل هي ترتعش لنشوة ما في أحلامها؟
عرفتُ أن زملاءنا بالكلية يطلقون عليها "خشبة عمود عبدالواقف" لشدة نحافتها وضآلتها. كانت تعرف هي بهذا الاسم أو اللقب، تضحك منه، تقول في إصرار وبما يشبه التهديد والتحدي: الخشبة أفضل من الزعزوع، الخشبة تستطيع بها أن (ترزع) واحدا على دماغه عندما يقل أدبه، أما الزعزوع فليّن ورخو ويميل مع الريح حيث يميل، ليس لديه موقف.
المجلة الثانية التي كنت رئيس تحريرها كانت بعنوان "إشراقة". صدرت عن اللجنة الثقافية باتحاد طلاب كلية التجارة، وكانت تطبع بماكينة "الاستنسل".
فاز التيار الإسلامي في انتخابات اتحاد الكلية. شُكِّلت اللجان. صعدت زميلتنا المحجبة فوقية لاشين، للجنة الثقافية. سقطت أمامها درية إبراهيم التي عاتبنتي لأنني لم أنفذ وعدي بالذهاب إلى "جمعية الدراما"، لكنها طلبت مني أن أساندهم في انتخابات اتحاد الطلاب، في الوقت الذي طلب مني المعتز بالله أن أساند الطلاب الأخوان في انتخاباتهم الشرسة أمام الطلاب اليساريين.
دخلت لجنة الانتخابات. لم اختر أحدا، وأبطلت صوتي.
ولكن ينجح التيار الإسلامي. يمتلك زمام الاتحاد، نشاهد ذقونا طلابية كثيرة تملأ الكلية.
ظنت فوقية لاشين أنني انتخبت أسرتها بالكلية، فأسندت لي رئاسة تحرير مجلة ثقافية تصدرها اللجنة. اخترتُ اسم "إشراقة" لها. لم يصدر منها سوى عدد واحد. بعد صدوره اكتشفوا أنني كتبت مقالا عن الشاعر الفرنسي رامبو، وصفت حياته، قلت إنه كان شاذا جنسيا، فاعترض مجلس اتحاد الطلاب. قال رئيس الاتحاد محتدًا كيف تكتب عن شاعر أجنبي قذر وفاسد مثل هذا، كيف تروِّج للفكر المنحرف في مجلة تصدرها جماعتنا؟ لماذا لم تكتب عن مولانا حسان بن ثابت شاعر الرسول (عليه الصلاة والسلام) مثلا؟
ـ أنا حر اكتب عمّن أريد. لا بد من تعريف الطلاب بالشعراء الأجانب الذين أثّروا في الحركة الشعرية العالمية.
ـ لست حرًّا هنا، النشر له تقاليد عندنا، عموما سأسند رئاسة التحرير لفوقية لاشين نفسها.
غادرتُ جلسة المحاكمة. لم تصدر المجلة بعد ذلك.
التعليقات