ـ لماذا أصبح الشاعر صلاح عبد الصبور رائدا متفردا في مدرسة الشعر الحديث؟
بهذا السؤال تبدأ الكاتبة الناقدة مديحة عامر مقدمة كتابها "قيم فنية وجمالية في شعر صلاح عبد الصبور ـ دراسة تحليلية وجمالية حول الفن والفكر" الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة "دراسات أدبية".
ولكي تجيب مديحة عامر عن هذا السؤال، فقد قدمت على مدى ثلاثمائة صفحة تنويعات نقدية وسلسلة من الدراسات التذوقية والتحليلية في دواوين صلاح عبد الصبور الستة: الناس في بلادي 1957 ـ أقول لكم 1961 ـ أحلام الفارس القديم 1964 ـ تأملات في زمن جريح 1970 ـ شجر الليل 1973 ـ الإبحار في الذاكرة 1979.
إنها تتحدث عن ظاهرة الحزن في شعر صلاح عبد الصبور، ثم تتحدث عن الحب في هذا الشعر، ثم تفرد بابا ثالثا للحديث عن قضايا إنسانية وفكرية عن الوطن في وجدان الشاعر وشعره، والصداقة ونبضها الإنساني والفني، ثم الشاعر وفلسفة الموت. أما الباب الرابع والأخير فقد كان تحت عنوان "الفن والجمال في شعر صلاح عبد الصبور" وذلك من خلال دراستين حول قصيدتي: الشعر والرماد، وعندما أوغل السندباد وعاد.
في ص 286 تقول الكاتبة: "دعوني أقول لكم، إنني لست إلا متذوقة مجتهدة أحاول ما استطعت أن أتبين منهجا عماده ربط أواصر الصداقة والحب مع العمل الفني. إن رصيدي في رحلتي كل ما قرأته لأساتذتي النقاد الفضلاء، وأدواتي قد استعرتها منهم أيضا، أما ذوقي فقد تربى في أحضان الشعر سنوات وسنوات. أما الشاعر الذي اخترته وأخلصت دراسة شعره فهو شاعر ورائد هو الأستاذ الشاعر صلاح عبد الصبور الذي لا أضيف شيئا جديدا إذا قلت إنه رائد مصري لمدرسة الشعر الحديث التي نمت وازدهرت وأعادت إلى الشعر قيمه الحضارية، وأضافت إلى لغته لغة معاصرة طبيعية، وربطت بينه وبين الفنون جميعا".
وبناء على هذا فإن الكاتبة لا تضع منهجا نقديا ـ أو نظرية نقدية جديدة ـ في دراستها لشعر صلاح عبد الصبور، بقدر ما تقوم بتطبيق ما قرأته من نظريات نقدية على هذا الشعر. وهي من خلال هذا تحاول أن تجيب عن السؤال الذي طرحته في مقدمة كتابها، والذي تعود إليه مرة أخرى عند التعرض لقصيدة "عندما أوغل السندباد وعاد" التي نشرت بمجلة العربي الكويتية (العدد 251 ـ أكتوبر 1979) بعد أن صدر آخر دواوين الشاعر وهو "الإبحار في الذاكرة" عام 1979.
تقول الكاتبة ص 287: "كان سؤالي الدائم والدائب: لماذا أصبح لشعر صلاح عبد الصبور هذه المكانة العظيمة، فأصبح على رأس مدرسة الشعر الحديث، وأُعدت عنه الرسائل الجامعية في مصر، وفي خارج مصر أيضا، وتُرجمت بعض أعماله إلى كثير من اللغات الحية، وعُرضت بعض مسرحياته على مسارح أجنبية مختلفة؟، لماذا وجد هذا الشعر العربي طريقه إلى اللغات العالمية؟".
وتعتقد الكاتبة أن الإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في سطور مقال نُشر لصلاح عبد الصبور بعد رحيله في مجلة فصول (العدد الخاص به "الشاعر والكلمة") وجاء بعنوان "تجربتي في الشعر" والذي يقول في نهايته: "إذا كان لي ـ في النهاية ـ أن أتحدث عن إضافتي الخاصة إلى الشعر العربي، فإني أوثر أن أترك هذا للنقاد، ولكني أستطيع أن أشهد ملامحي في عشرات الشعراء الشبان، وهذا لا يرضيني كما قد يتبادر لبعض الناس، فأنا أحب لمن بعدي أن يقرءوني مفتشين عن عيوبي، وأن يحاولوا أن يتجاوزوني، أنا وجيلي، لكنني أعتقد أني أضفت في مراحل مختلفة بضعة أشياء أولها: اصطناع لهجة الحديث الشخصي الحميم في القصيدة الشعرية على نحو أفقد القصيدة العربية كثيرا من خطابيتها الزائفة، وثانيها: إضافة عنصر الفكر إلى العمل الفني بحيث يخرج قارئي بأن لي وجهة نظر في الحياة والكون، وثالثها: إضافتي في المسرح الشعري ..".
عشرون عاما هي رحلة الكاتبة مديحة عامر مع شعر صلاح عبد الصبور ومسرحياته ومقالاته وكتبه النقدية، كان نتاجها هذا الكتاب الذي بين أيدينا الذي وضعته الكاتبة بكل الإخلاص والوفاء عن أستاذها الشاعر الراحل.
وقد صرحت لي المؤلفة في حديث معها ـ قبل وفاتها ـ بأن هذا الكتاب كان نواة لرسالة الماجستير التي كانت تنوي الحصول عليها من جامعة القاهرة، ولكن مرضها ـ في الفترة الأخيرة ـ كان سببا من أسباب تأجيل التفكير في مواصلة الدراسة الأكاديمية.
* ظاهرة الحزن في شعر صلاح عبد الصبور:
في الباب الأول تبدأ الكاتبة بمقدمة تنطلق منها للحديث عن ظاهرة الحزن في شعر صلاح عبد الصبور، فتقول في ص 15: "يولد الفن العظيم في أحضان الألم العظيم، وأنات الفنانين والأدباء هي وهجهم المتألق ولحنهم الخالد عبر الزمان. إن معاناة الألم تبقى نبعا فياضا للفن العبقري الخالد". كما أنها تستند إلى رأي د. عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية" في قوله ص 372: "وربما كان الشاعر صلاح عبد الصبور أكثر شعرائنا المعاصرين حديثا عن الحزن وما يتخلل قصائده عن الحزن من مشاهد حية ومن مواقف إنسانية يتجسم فيها الباعث على الحزن".
وتؤكد الكاتبة على أن نغمة الحزن في شعر صلاح عبد الصبور تعتبر نغمة أصيلة مشاركة في كل تنويعات العزف، سواء ذكر الحزن أو لم يذكره، سواء وصفه أو أغفله، وذلك منذ أن أطلق صيحته الشهيرة "يا صاحبي أني حزين" في قصيدة "الحزن" في أول دواوينه "الناس في بلادي 1957" وحتى قوله: "وحيدا حزينا أواجه ما كان حبك" في قصيدة "شذرات من حكاية متكررة وحزينة" في آخر دواوينه "الإبحار في الذاكرة 1979".
وتعتقد الكاتبة أن حزن صلاح عبد الصبور يرجع أول ما يرجع إلى أن ذاته تحمل قيما حقيقية افتقد وجودها في الحياة، وأحس بمسئوليته في حمل عبء البحث عن وسيلة تضمنها فكر الإنسان وسلوكه، وأن الفن هو الطريق والشعر خيمة نور لأصحاب القلوب الحساسة المفكرة:
وأتي المساء
وفي غرفتي دلف المساء
والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير
حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم
حزن صموت
والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت
بأن أيامنا تفوت
وبأن مرفقنا وهن
وبأن ريحا من عفن
مس الحياة فأصبحت، وجميع ما فيها، مقيت
أما الحزن في ديوان "أقول لكم" فقد ارتبط بقضية الموت، ولعل ارتباط الحزن بالموت ارتباط وثيق وعميق، عمق المشاعر الإنسانية بامتدادها إلى أول الخليقة، حزن الفقد، وحزن تأمل النهاية البشرية، كما تقول الكاتبة. غير أنه على الرغم من ذلك فإن الشاعر لم يقدم في فنه نظرة تشاؤم واحدة كغيره من الشعراء الحزانى، بل على العكس من ذلك، فإنه يقدم في تصوراته وتعليلاته استعلاءً فكريا للذات الإنسانية، والأمل في انتصار خيرها على شرها، ولعل ديوان "أقول لكم" تميز بين دواوين الشاعر بأنه يحمل أعنف معاركه الذاتية مع الحب والفكر والحياة، في أعنف سنوات العمر توثبا للمعرفة، وبحثا عن مستغلقات الحياة.
ويأتي ديوان "أحلام الفارس القديم" ليجسد هذا الحزن عن طريق "الصدق" الذي يتميز به شعر صلاح عبد الصبور، فعن طريق هذا الصدق، يقدم اعتذارا رقيقا من المشاعر الحزينة والقصائد الحزينة التي بين دفتي هذا الديوان، ولعل قصيدته "أغنية للشتاء" من أكثر القصائد الحزينة التي يشيع فيها روح هذا الصدق الإنساني:
ينبئني شتاء هذا العام أن هيكلي مريض
وأن أنفاسي شوك
وأن كل خطوة في وسطها مغامرة
وقد أموت قبل أن تلحق رِجلٌ رجلا
في زحمة المدينة المنهمرة
أموت لا يعرفني أحد
أموت لا يبكيني أحد
وتمضي الكاتبة في رصد ظاهرة الحزن في ديواني "شجر الليل" و"تأملات في زمن جريح" عن طريق تحليل بعض قصائد الديوانين، وفي رأيها فإنه لن يستطيع أحد أن يتطلع في أحزان هذين الديوانين دون أن يرجع لدراسة وفهم طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية في هذه الفترة الزمنية التي كان نتاجها هذا الشعر.
أما عن هذه الظاهرة في قصائد ديوان "الإبحار في الذاكرة" فتقول عنها الكاتبة: "كيف أتوقف مع الحزن في هذا الديوان، وهو عصارة قلب حزين ونبض فكر أشقته الحيرة في عالم لا مهرب بين أرضه وسمائه لوثته الشرور والآثام، وظلم الإنسان، عالم مؤبوء ولا برء، ومجتمع يسوده الظلم والجهل والفقر وتُمتهن فيه آدمية الإنسان، وقلب دمرته مرارة الفشل المتكرر في الحب دائما. ماذا في الذكريات الأليمة غير المرارات التي تجعله يصيح "لا تبحر في ذاكرتك قط"؟.
* الحب والوطن والصداقة في شعر صلاح عبد الصبور:
نحن نعرف أن دور الحب بالغ الأهمية والفاعلية في الشعر العربي منذ عصره الجاهلي، وعلى امتداد الشعر العربي في عصوره المختلفة، وحتى ما نعرفه ونسميه بعصر الإحياء والتجديد في شعرنا المعاصر، وعلى امتداد هذا الزمن تغيرت النظرة إلى المرأة ـ أكثر من مرة ـ غير أن هذا لا يعني تغير مفهوم الحب وأحاسيسه ومشاعره. والسؤال الذي تطرحه مديحة عامر، وهي بصدد دراستها لشعر صلاح عبد الصبور، هو: كيف أحس شاعرنا المعاصر الحب، كيف عاشه؟ كيف عبر عنه؟ كيف واجه المرأة، وكيف واجهته؟، وكيف أثر فيه المجتمع، وكيف واجهه؟ وما هي العلاقات والبصمات العظيمة التي تركها حبه العظيم في شعره؟
ثم تمضي ـ ومن خلال دراستها لدواوينه المختلفة ـ لتجيب عن هذه الأسئلة. فالحب في شعر صلاح عبد الصبور عطاء كبير، فقد أحب الحياة، وأحب الناس، وأحب الإنسان، وأحب الأرض، والكون في أعماقه يعزف سيمفونية حب هائلة، فالله قد خلق الكون بريئا.
والحب عند صلاح عبد الصبور ليس هو الحب الرومانسي، وسهر الليالي والأرق والسهاد، ذلك أن المرأة عنده هي الصديقة والمشاركة في صنع الحياة، وهو عندما يتحدث مع حبيبته فإنه لا يحدثها عن حبه لها وإعجابه بها، وإنما يحدثها عن حياته، عن ماضيه، ومستقبله، عن مشاكله، وحكمته، ثم يبشرها بالمستقبل، يضيء لها الغد حين يطمئنها على ما في داخله من قوة ورغبة في امتلاك فرحة الحياة. إن صلاح عبد الصبور لم تشمله رومانسية جيل الشعراء الذين عاصرهم في شبابه وقرأ لهم، وإنما عبر عن رؤيته حرا مستقلا، لقد كونت رؤيته عناصر زمنية وامتدادا فكريا. ولعل قصيدته "الملك لك" والتي قامت الكاتبة بتحليلها خير معبر عن نظرة الشاعر إلى الحب، والتي يقول في جزء منها:
أواحدتي قبلما نلتقي
بذاك المساء السعيد البعيد
بلوت الحياة وأرزاءها
عرفت صليل القيود الحديد
وكم ليلة جعت يا فتنتي
وأخرى ظمئت
وكم جعدت عارضتي الدماء
وقد وخزتها ليالي الشتاء
تصارعت والهول وجها لوجه
ولكنني ما عرفت الفرار
أواحدتي .. ربما تعجبين
وقد تسألين:
لماذا إذن يا صديقتي ينوِّر عينيك فيضُ سرور المحب؟
حكايتي هذه على طولها لا تثير السأم
سأحكي الحكاية من بدئها
لحد الختام ..
ولعلنا قد لاحظنا أيضا في هذه القصيدة، مسحة الحزن التي شابتها، مما يؤكد أصالة هذا الحزن في شعر شاعرنا.
أما عن الحب في ديوان "أقول لكم" فقد حمل النضوج الفكري والنفسي بل الاجتماعي، حيث تحققت للشاعر المكانة الفنية والأدبية، غير أنه في تلك الفترة عاش تجارب حب مريرة، تركت في ذاته مرارتها وأفقدته نشوة البراءة الأولى.
والحب عند صلاح عبد الصبور ليس هو حب المرأة فحسب، ولكن هناك أيضا حب الوطن. لقد توازى في قلبه حبان كبيران: حبه للوطن، وحبه للمرأة. وكما عاش مأساته الكبرى في حبه للمرأة، عاش مأساته الأكبر في حبه للوطن. وكما تقول الكاتبة: "فإن حب صلاح عبد الصبور لوطنه لا نسمعه رنينا أو ضجيجا وهتافا، إنما نحسه يتسلل إلى أعماقنا ونراه يمتلك مشاعرنا من خلال موقف دقيق ورهيف الحس أو قصة موحية".
لذا فقد أفردت الكاتبة فصلا كاملا في الباب الثالث بعنوان "الوطن في وجدان صلاح عبد الصبور وشعره". ولعل قصيدته الشهيرة "شنق زهران" بديوانه "الناس في بلادي" خير معبر وخير شاهد على وجدان الشاعر تجاه القضايا الوطنية. في هذا تقول الكاتبة ص 209: "لو أنني توقفت مع وجدان الشاعر الوطني في هذه الحقبة التي ظهر بها ديوان "الناس في بلادي" سنة 1957 وما قبلها بسنوات، لراعني حقا أنني سأتوقف مع كل قصيدة على حدة، فإذا كانت القصائد قد سجلت مواقف مباشرة في مواجهة الأحداث والقضايا ـ ولا أعني أنها قصائد مناسبات، بل هي تصور كل اللحظات الشعورية بحس متوتر ودائم لتكرار واقع متواصل كالاحتلال ومطلب الحرية الدائم، أو حادثة من آثاره الفظيعة كحادثة دنشواي التي صورها الشاعر في رائعته "شنق زهران" ـ لو أنني توقفت مع هذه القصائد فقط لما استطعت أن أقول إني أسجل له هذا الوجدان الوطني لأن الواقع المطروح أمامنا يقول بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأنه عندما يتحدث عن نفسه أو مشاعره فهو جزء من عجلة كبيرة وقطرة في بحر المجموع، فذاته جزء من ذات كبرى يتحرك بها ومعها، وهو يعبر عن آلام البشر":
كان زهران غلاما
أمه سمراء والأب مولَّد
وبعينيه وسامه
وعلى الصدغ حمامه
وعلى الزند أبو زيد سلامه
ممسكا سيفا
وتحت الوشم نبشٌ كالكتابة
اسم قرية
"دنشواي"
***
من يتأمل هذه السطور الشعرية لصلاح عبد الصبور:
ورجعتُ بعد الظهر في جيبي قروش
فشربتُ شايا في الطريق
ورتقتُ نعلي
ولعبتُ بالنرد الموزع بين كفي والصديق
سيكتشف أن صلاح عبد الصبور يعطي الصداقة أهمية خاصة، لذا تتكرر كلمة (صديق) في كثير من قصائده المختلفة، وأيضا كلمة (صديقة). وقد تنبهت الكاتبة الناقدة مديحة عامر لهذا المعنى، ولهذا المفهوم عند صلاح عبد الصبور، فقامت بتخصيص فصل كامل من الباب الثالث عن "الصداقة ونبضها الإنساني في فكر وشعر صلاح عبد الصبور" وهي تبدأ هذا الفصل بقولها ص 242: "لم تكن الصداقة قضية من القضايا الفكرية المعاصرة في شعر شاعرنا، لأنها إحساس واحتياج وموقف قديم قدم الإنسان ووجوده وحياته على وجه الأرض، وهي ليست موضوعا غريبا على الأدب العربي والشعر العربي، فقد كتب كثير من الأدباء والمفكرين والشعراء عن الصداقة والأصدقاء، ولكن هذه الصداقة عند صلاح عبد الصبور، كانت تمثل الثالوث في معادلة: الحب والشعر والأصدقاء.
لقد أحب صلاح أصدقاءه حبا كبيرا، وتحدث عنهم في كتبه ومقالاته وكثير من قصائده. ومن أهم الأصدقاء الذين تحدث عنهم الشاعر في كتبه ومقالاته: عبد الغفار مكاوي، محمود أمين العالم، أحمد كمال زكي، فاروق خورشيد، وغيرهم. بل إنه كان يعتقد أن كل الناس أصدقاء له، فالأصدقاء والناس في أعماق ذاكرته، هم ألوانه وأيامه ومشاعره، أو كما تقول الكاتبة ص 249: "كان مضمون صلاح عبد الصبور هو ارتباط واع حميم بالناس وقضايا الناس من خلال حب عميق وارتباط واسع وصداقة حميمة أثرت في شعره حين جعلته صوتا يخاطب القلوب وهمسا يتحسس المشاعر وإيحاء هو نبض الواقع المعاش".
* فلسفة الموت في شعر صلاح عبد الصبور
ومن أريج الصداقة وارتباطاتها، تنتقل بنا الكاتبة إلى فلسفة الموت عند صلاح عبد الصبور، في فصل بعنوان "الشاعر وفلسفة الموت". وفي هذا تقول ص 251" :إننا لو تأملنا نتاجه الشعري كله عبر الدواوين الستة لوجدنا أن (حس الموت) كثير الإطلال علينا حتى في القصائد التي لا تتحدث عن الموت أو القصائد التي تموج بأحساس الحياة كقصائد الحب مثلا نجد كلمة الموت تطل علينا من مكان غائر في القلب:
عندما يلجئنا الحزن إلى بطن جدار
ليسقي فوقنا مثل تراب الموت زهره
زهرة ميتة طال عليها الاحتضار
لا ترى إلا التناسي مهربا من موتنا
موتنا القادم في ضوء النهار
وإذا كان الإحساس بالموت يشيع في شعر صلاح عبد الصبور، وتحضرني دائما قصيدته الحادة "أغنية للشتاء" كلما تذكرتُ الموت، وكيف عبر عنه شعراؤنا المحدثون، إلا أن ديوان "تأملات في زمن جريح" سنة 1970 والذي كتبت قصائده بعد هزيمة 1967 فإنه وكما تقول الكاتبة: "إننا نلتقي بأشد أحزان الشاعر وطأة على نفسه، ونلتقي مع التصوير الصادق والإحساس الحقيقي بزمن الهزيمة، فلم تخل قصيدة من حس الموت في هذا الديوان .. ففي قصيدته "استطراد أعتذر عنه" يتحدث عن الموتى في داخله. وقد نسبتْ الكاتبة الجزء الذي اقتطعته من هذه القصيدة إلى قصيدة "ذلك المساء" بينما هو في حقيقة الأمر جزء من قصيدة "استطراد أعتذر عنه" [ص 289 ـ المجلد الأول ـ الأعمال الكاملة للشاعر ـ ط1 دار العودة ـ بيروت].
فؤادي المطعون بالسهام الخمسة
صندوق سري
خزنة المتاع، روضتي وقبري
أزرع فيها جثتي ، خلعتها في زمني المفقود
أدفنها في صدرها المفئود
معذرة ، نختصر الكلام
فالجثث الكثيرة التي دفنتها عاما وراء عام
تريد أن تنام.
وفي نهاية مراجعتنا لكتاب "قيم فنية وجمالية في شعر صلاح عبد الصبور" تبقى كلمة وفاء من مديحة عامر لأستاذها الشاعر الراحل، تقول فيها ص 264:
"كان إنسانا ذكي القلب، نقي الفكر، محبا للحياة، محبا للناس، صادق النية، شريف الطوية، خيّر الفعل، شجاع الكلمة، وطني الذمة والأحلام، صبورا مرهفا كريما حنونا، دفاق العطاء، لقد تصدع برحيله ركن عظيم من أركان الفكر والأدب، وانمحى ظل وارف يأوي إليه الأصدقاء والمعارف والعاملون والشعراء والكتاب والأدباء من مريدي صالونه الأدبي الكبير، يسع الجميع ويضم الجميع من كافة الأفكار والاتجاهات، يحترم الكبير ويرعى الصغار. كان وجوده المضيء ازدهارا للفن والشعر والنشر والثقافة، كان وجوده المضيء إشعاعا فكريا وإنسانيا يجمع القلوب. لقد رحل الإنسان العظيم شهيد الكلمات التي عاش بها، ورحل بها. وبقي الشاعر العظيم الذي ستظل الأجيال تتدراسه وتتحدث عنه إلى أن يشاء الله".
التعليقات