أدهشتني"غرابيل" هذه القصة القصيرة للكاتب الأديب والشاعر الأستاذ سمير الفيل قد نشرها الكاتب على صفحته السبت ١٣-١-٢٠٢٤.
القصة قرأتها أكثر من مرة، وذلك ليس لغموض فيها، بل للعمق الفني في النص و لابتعاد محتواه الدلالي ومبناه اللغوي والسردي عن السطحية التي نجدها في نصوص من قد يستسهلون أمر الإبداع للقصة القصيرة، غير مدركين ذلك الفارق العميق بين الخاطرة والقصة القصيرة.
"غرابيل" بناء قصصي يثير المشاعر العميقة ويرتفع بكياننا الأعمق المتصل بما اتفق الناس على أنه حق وخير وجمال، بكلمات منتقاة بعناية، قد صاغ منها سمير الفيل تجربة فنية سردية جمالية متميزة مرتبطة بمعنى لا يمكن تحققه بالحكي المباشر.
"غرابيل" قوتها المعنوية والدلالية في ارتباطها بالكامن داخل كل إنسان، مثل الرغبة للاندفاع لفعل أمر قد يكون غير مرغوب فيه في حقل القيم، والخلفيات الروحية، و إن اضطر أن يبوح به، فإنه لا يبوح به إلا تلميحا إشاريا أو حكائيا، وهذا ما يجعل الإنسان يعلو على الحيوان.
نقرأ معا النص القصصي كما أورده الكاتب الكبير الأستاذ سمير الفيل، ثم نجتهد معا في تعمق ما يمكن أن يكون وراء الكلمات والعبارات للمحتوى السردي لهذه القصة القصيرة بعنوان"غرابيل":
"غـرابيل"
بائع الغرابيل كان يجوب الأسواق، ويخترق الأزقة الخلفية المشمسة في نهار طوبة شحيح الدفء. يحمل بضاعته بين يديه وينادي. كانت وحيدة، تتكيء على حافة الشباك، وتسرح في البعيد حيث ذهب زوجها لبر الشام كي يعمل بحثا عن الرزق الحلال.
قبل سفره بيومين رجته أن يبقى، فرب هنا رب هناك، لكنه قال جملته التي لن تنساها: البلد التي تمنحك القرش هي بلدك.
كانت تعرف أن أرض الله واسعة، وما يكسبه من عرق جبينه هنا حتى لو أنه قليل إلا أنه يمنحهما الستر، لكنه تبرم من ضيق ذات اليد. جاء بجواز السفر الأخضر وألقاه أمامها. حين رأت النسر الذهبي ذعرت فقد كان ينظر نحوها بعداء واضح، وهي أعطته ظهرها حتى وضعه في الحقيبة الصغيرة.
قال لها وهي تعد له أقراص المنين والكعك بعجوة وعيش الطابونة: لا تطل الغياب.
اغتصب ضحكة ووعدها أن يرسل في طلبها فور أن ينصلح الحال. بائع الغرابيل ينادي بصوت فيه نداوة:
(الحر يصبر على الضيق ولا يفرح لعـادي لو ينشف الفم م الريق يتم ع الحال هادي)
لم تكن تفهم الكلام ولكنها طلت ورأت أنه يشبه حلمي تماما بنفس شاربه الكث وصوته الغليظ المبحوح، لكنه لم يغني لها أبدا.
لأول مرة تكتشف أن حلمي الذي راح لبلاد الشام ليعمل في الموبليا لم يغن لها حتى في أيام الخطوبة. صحيح انه كان يلاعبها ويضاحكها لكنه كان لا يطيق الغناء ولا سيرة المطربين والمطربات.
مرة سمعها تغني في الحمام وهي تستحم فطرق الباب وأمرها أن تكف عن إزعاجه بصوتها. في الفصل وقبل أن تخرج من الصف السادس الإبتدائي كانت تشارك في فريق الكورال، وقد علمتها مدرسة الموسيقى السلم الموسيقي، ومتى تبدأ من " دو " لتصعد إلى " سي " دون أن يختل صوتها.
هو الآن واقف على الباب بتهيب. فكرت لو أن لها طفلا لمنحها الأمان، ولأدخل في قلبها الطمأنينة. خمس سنوات بلا طفل. لا ملاغاة، ولا تحنين: تفضلي يا هانم.
مدت يدها تختبر متانة السلك، وقبل أن تسأله عن الثمن سألها أن تأتي بكوب ماء مثلج.
دخلت وتركت الباب مواربا، وحين عادت رأته يمسح عرقه بظهر يده: الدنيا حر. اسمحي لي بالجلوس على عتبتك.
لم يكن بوسعها أن تمنعه، وكانت تشم رائحة عرقه فتعود القهقرى لأيام كان حلمي معها، يعود مساء في غاية الإجهاد فتضع قدميه في ماء ساخن، تتركه لتعد العشاء. ياه. كم اشتاقت لتلك الأيام، فثلاثة أعوام جففت روحها، وصحرت أيامها.هشت بيدها خواطر سوداء: هل يوجد أكبر من ذلك؟
هز رأسه: هذه أفضل بضاعة، وأبيع بنصف سعر السوق.
من طرف خفي قاست طوله، ورأته أقصر من زوجها ببوصتين فقد كان " زر " الكهرباء يعلو كتفه بنفس المقدار، ضحكت وهي تضبط نفسها تقارن بين رجلين. بين حاضر وغائب. سألته: من أين حفظت الموال؟
قال لها إنه لابن عروس، وقد سمعته عن جدي فقد كان يغنيه بين تعب المشاوير، وكنت أسرح معه. قالت له وهي تدخل لثوان معدودة ثم تعود بصورة أتت بها من درج الكومدينو: هذه أنا في حفل المدرسة. كان صوتي جميلا.
حملق في صورة البنت الشقية للحظات وقد افترت شفتاه عن ابتسامة هادئة: كنت حلوة. أراك تحبين الغناء.
وضع نظراته في بلاطات العتبة المزخرفة بأسود مع مربعات أقل بالأحمر: أول زبونة تسألني عن الموال. إنني أسلي به نفسي.
تركت في يده الصورة، ودخلت، أحكمت وضع الإيشارب حول شعرها، وأغلقت آخر زرار في فستانها البيتي المهوش: استرح دقيقتين. أجهز كوبين من الشاي لي ولك.
نظر نحوها في ترقب ومد رقبته يتشمم وجود أحد فاكتشف أنها بمفردها، لكنها كانت مأخوذة بالكلام الذي حفظه عن جده. اختفت لدقائق وعادت بالكوبين. مدت يدها والشاي يصبغ الضوء النازل بحمرة مبهجة: ياليتك تغني موالا آخر. كانت الغرابيل مسندة على حافة الجدار، متداخلة ومتعانقة، أما الباب فمفتوح على آخره،وقد راح ينتقل من موال إلى موال آخر وهي تهز رأسها مستمتعة لأقصى حد. كان البيت من طابق واحد بالطوب الأحمر، وعلى الحافة تحط عصافير وتطير، وتهب نسائم آتية من الشمال مع لفحة برد تنخر العظام.
ارتشف بتلذذ عجيب شاي الصباح، وهي أمالت كوبها وراحت تعب وعقلها شارد حيث ينبغي أن يكون حلمي: كم تريد ثمنا له؟
نظر بامتنان نحوها وقد لامست يده أصابعها الطرية بدون قصد فيما هو يسلمها الكوب الفارغ: لا شيء. يكفيني أن تعرفت عليك.
لكنها دخلت ثانية. حطت الكوبين على رخام المطبخ، وعادت بحافظة نقودها: خذ ما تشاء. انتزع جنيهين. هبط درجات السلم القليلة، هو يصدح بالموال، أما هي فقد راقبته من شباكها حتى ابتلعته الزحمة.
هل هي مصادفة أن يكون الغربال حاضراً في هذه الحالة الصراعية الملتهبة لدى هذه التي سافر زوجها حلمي لبلاد الشام بحثا عن لقمة العيش وهذا البائع المتقد جسمه بسبب ارتفاع درجة الحرارة، والمجهود المبذول في المشي على القدمين لبيع الغرابيل وهو يغني المواويل لابن عروس؟
الغربال أداة تتكون من شبكة حولها إطار خشبي، تسمح بفصل أجزاء من المادة، للتخلص منها، عن طريق غربلة الحبوب، مثل الذرة و الغلة و الشعير والأرز والتبن، للتخلص من الشوائب والمواد الغريبة التي لا يجب أن تكون موجودة في الحبوب.
فهل أراد سمير الفيل إدارة مثل هذا الغربال في واقع عام ٢٠٠٦ كما أشار أسفل النص ؟!
قصة "غرابيل" إبداع إنساني، جهد رمزي إبداعي لفت من خلاله سميرالفيل أنظارنا إلى ضرورة إعادة النظر في كل ما يرتبط بأعماقنا النفسية والاجتماعية والثقافية بواقعنا الحي، المرئي والخيالي والملموس، وكل ما له صلة بالمستقبل، دون التقليل من شأن أي ألم فردي أو جماعي، بل يتم التعامل معه باحترام ب"غُربالية" أو "غربلة" نتقن بها الانتقاء لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، دون الانزلاق في المرفوض روحياً أواجتماعيا أو غير ذلك، في هذا العصر، حيث تتضاعف بسبب الصراعات المختلفة في العالم، وبسبب الإنترنت والفضائيات ما نحتاج فيه استخدام "الغربال"للفرز والانتقاء.
لابد من التأكيد على هذا الاقتدار لدى سمير الفيل في صياغة بنيته السردية التي أدخلنا بها إلى أعماق المرأة وبائع الغرابيل , بلغة سلسة معتصرة من أغصان لغتنا العربية الفصحى، دون أن يكون هناك شعور بأن هناك فجوة بين الشخصية و الحكي عنها بمستوى لغوي واقعي، رغم أنه فصيح، يخلو من العامية. وتلك فيما يبدو سمة من سمات الأسلوب لدى سمير الفيل.
الكاتب بهذا الأسلوب اللغوي السلس الفصيح دون تصادم مع الواقع النفسي للشخصيتين وطريقة الحكي لدى كل منهما - الكاتب جعلنا ندرك ما يدور بعقل المرأة وهي تقارن بين حلمي زوجها الذي يكره الغناء وكان يعاملها بجفاء، وهذا الرجل الذي أتاح لها الفرصة للحكي عن طفولتها و للبوح بعشقها للغناء من الطفولة فقد كانت في كورال المدرسة.
الغربال كان مسرح الصراع داخل الشخصيتين.
لقد أدارت تلك المرأة المفعمة بالرغبة بسبب هذا الفقد الأليم لمن يشبع رغبتها - فزوجها حلمي قد سافر بلاد الشام بحثا عن لقمة العيش، وهي في عنفوان أنوثتها وشبابها ولم ترزق منه طوال السنوات الخمس مدة زواجهما قبل أن يسافر بطفل - أدارت المرأة الأمر في رأسها، في غربال القيم و العقل والمجتمع، بعدما نادت بائع الغرابيل الذي يشبه حلمي زوجها الغائب لأعوام ثلاثة، جفت فيها روحها مشتاقة إلى زوجها حلمي. ولقد رأت شبيها له، هو بائع الغرابيل، لكنه أقصر من زوجها في الطول، و يجيد غناء مواويل ابن عروس بصوت حسن.
وانظر مليا لعبارة: "تركت له الباب مواربا"وكذلك سمحت له بالجلوس على عتبة البيت، وأعدت له ولها كوبين من الشاي !
وكذلك بائع الغرابيل صارعته المشاعر بين ما قد فهمه من الموقف وما يمكن أن يحدث من مفاجآت.
هو أيضاً لم يجد من يسأله عن الموال من الزبائن الذين بشترون منه الغرابيل، فقرر أن يذهب إلى البعيد العميق من الخلفيات الروحية والاجتماعية والقانونية، وضع مفردات الأمر في الغربال، ليصل في النهاية إلى قراره النهائي ألا يستجيب لنداء الرغبة المتبادل بين الطرفين، رغم أنها تركت له الباب مواربا ليتخذ قراره بحرية تامة!
فطلب " كوب ماء مثلج " ليقلل من شدة شعوره بالحر.
نحن نقدر هذا السرد الذي يجيد فيه المبدع اقتناص أدق المشاعر و الخواطر من أعماق أعماق البشر ليطلعنا بمثل هذا التداخل الفني العبقري بين السمعي والبصري والمشموم، على ما علينا أن ننجزه - نحن أبناء آدم - في هذا الوجود، أن نديم تلك الغربلة، بعناية فائقة ، من آن لآخر، دون خضوع لعاطفة شخصية، أو رغبات مادية ضيقة.
واختيار عنوان النص "غرابيل" فيما أتصور، هو الدليل الأكبر على أن الرمز الفاعل في هذا المحتوى السردي هو "الغربال ".
ولكم كان جدودنا عباقرة حينما أطلقوا هذا المثل الخالد في محكيتنا المصرية الشعبية الخالدة:
"اللي ما يشوفش من الغربال يبقى أعمى"
التعليقات