لا تتعجبوا من فضلكم من هذا العنوان الذي وجدته مناسبا - من وجهة نظري المتواضعة - بعد قراءتي للقصة القصيرة المدهشة الباسمة للكاتب الروائي والقاص المخرج الإذاعي الأستاذ رضا سليمان وهي بعنوان :هارب من المدينة الفاضلة و على القارئ العزيز قراءة النص قراءة جيدة ، ليبتسم ، ولكي يرى لماذا وضعت هذا العنوان :بارك الله فيما رزق!
تلك هي القصة القصيرة التي كتبها المبدع رضا سليمان ونشرها الأسبوع الماضي بجريدة القاهرة :
"أستيقظُ فى هدوء، أتأمل سقف الحجرة المزركش بألوان تطابق زهور حديقتي المنبسطة حول الڨيلا التى تسلمتُها من جهاز المدينة العام الماضي، فكل مَن يصل إلى السن القانونية فى المدينة يحصل على ڨيلا كاملة المرافق والأثاث، حتى ما يدفعه مستقبلًا مقابل الخدمات المقدمة، من كهرباء وماء، هو مبلغ رمزي، ذلك لأن معظم الخدمات تقدمها حكومة المدينة مجانية، خدمات الهواتف المحمولة، الإنترنت، جميع القنوات الفضائية مفتوحة على مدار الساعة، المنحة الشهرية التى تقدمها حكومة المدينة من مواد تموينية تفيض عن حاجتهم حيث يلقونها فى صناديق القمامة مع نهاية كل شهر، ترفع عربات القمامة الآلية أطنان من الأرز، السكر، الشاي المغلف، المكرونة مختلفة الأشكال، بالإضافة إلى لحوم ودجاج وخضروات مجمدة، كل ذلك يُلقى فى الصناديق ليحل محلها المنحة الجديدة.
اقتربت الشمس من منتصف السماء وما زلتُ فى فراشي، أتثاءب، أضغط ريموتا بجواري فتتحرك ستارة بألوان قوس قزح لتكشف عن حديقة واسعة، عمال يمارسون بعض الأعمال فى هدوء ويسر من تهذيب أشجارها وجز حشائشها. فى الڨيلات المجاورة الحركة هادئة، فقد أصبح العمل عبر شبكة الإنترنت تمارسه الأغلبية وهم فى فرشهم.
مائة عام مرت على مدينتنا منذ الثورة والقضاء على الفَسَدة، تكونت الحكومة الجديدة من شرفاء الوطن، تكفلوا بإقامة حياة كريمة وتطبيق كافة المبادئ التى نادى بها الثوار حتى استطاعوا خلق "المدينة الفاضلة" التى كان يحلم بها أفلاطون، إنها مدينتنا التى ولدتُ وأعيش فيها. التعليم، الصحة، الزواج، الإسكان، وسائل نقل فارهة، كل شئ أصبح وفق منظومة أكثر من رائعة، إنها المدينة الفاضلة بحق.
كل مساء صيفي نلتقى لتبادل الأحاديث فى المنتدى الجماعي المفتوح المقام على ضفاف البحيرة الصناعية التى تحتل الجانب الشمالي من المدينة، يُقال إن هذه المنطقة فى الماضي كانت عبارة عن محرقة لمخلفات ناتجة عن المدينة، لكن الحكومة قامت برفع مخلفاتها وحفرها على شكل قلب وقامت بتوصيل مياه البحر إليها عبر أنابيب طويلة، وقتها قيل إن المياه سوف تتحول إلى مياه راكدة تتعطن رائحتها بعد فترة لكن تصريف بعض ماؤها عبر أنابيب أخرى بالإضافة إلى البخر الذى يحدث بفعل الشمس يجعلها فى تناقص يحتاج إلى تجديد مستمر جعل منها بحيرة طازجة باستمرار، على شاطئها تمتد مساحات شاسعة من الأرض المغطاة بالنجيل مع أشجار رائعة وأحواض زهور مختلفة الألوان والرائحة، تتناثر المقاعد والمناضد فى كل مكان، فوق المنضدة قوائم مأكولات ومشروبات، وهى قوائم إلكترونية بمجرد اختيارك لأى شئ يعطى إشارة إلى عمال المنتدى الجماعي بالمطلوب ورقم المنضدة وبعد لحظات يأتي المطلوب، ومهما كان المطلوب فهو مدفوع مسبقًا عبر اشتراك رمزي يُخصم من الراتب شهريًا، شاشات عملاقة متناثرة تعرض أفلاما حديثة وقديمة ومباريات مختلفة، لا تنبعث منها الأصوات حتى لا يشوش بعضها على الآخر، مع كل مقعد سماعة يضعها المواطن على أذنيه ويضغط رقم الشاشة التى يود متابعتها فيأتيه الصوت.
حديثنا هذا المساء كان مختلفا بعض الشيء، حينما ذكرتُ عبارة بدت فى البداية بسيطة للغاية، قُلت "إنني أشعر بالملل يا أصدقائي" وكنتُ فى داخلي أبحث عن أفكار جديدة لتغيير حالة الرتابة التى نعيشها فى مدينتنا الفاضلة، لكن ما حدث كان خلاف ما رغِبت، حيث قال أحدهم "معك كل الحق يا صديقي، لم يعد لأى شئ فى هذه الحياة أيُ طعم" ثم يُعقب آخر ويبدو أنه كان يتأمل شيئا وهميا "لا عناء .. لا متعة"، ويعم الصمت لحظات لتتحرك على الوجوه علامات توتر، أفكر فى كلمات صديقنا بهدوء "لا عناء .. لا متعة"؟!.. أُقلِب الكلمات فى رأسي على أكثر من وجه، الحق كله معك يا صديقي، كل شئ سهل ومتاح لا لذة وقت الحصول عليه، وفى مدينتنا الفاضلة كل شئ سهل متاح حتى فقد قيمته و روعته. أتساءل فى داخلي فتخرج الكلمات لتصل إلى الأصدقاء "هل يعيش سكان العالم كما نعيش نحن فى مدن فاضلة .. أي حياة تلك؟!" فيُجيب صديقي الذى قال "لا عناء .. لا متعة" وهو يشير بيديه إلى ناحية ما ويقول "بالطبع لا يا صديقي .. أعلم من خلال دراساتي وأبحاثي التى أمضى فيها معظم وقتي، لأني رجل محب للبحث والتقصي، أن هناك أقواما حتى اليوم يعملون معظم النهار فى مهام شاقة للغاية ويحصلون فى المقابل على مبالغ زهيدة لا تكفى إطعام أسرهم". أشهق وأنا أتخيل تلك الصورة البشعة التى ينقلها لنا صديقنا، وأتأمل تفاصيلها، معنى هذا أنهم يشترون الطعام، وبالتالي هم مجبرون على اختيار أصناف تناسب ما يملكونه من أموال..! بينما لا يستطيعون شراء أصناف بعينها ..!! يا لها من حياة ممتعة، التأمل والبحث والاشتياق لأنواع معينة من الأطعمة مؤكد يجعل لها روعة وقت الحصول عليها، وبينما أتخيل أصناف الطعام الموجودة لدينا وما أن نطلبها حتى نجدها وبأقل الأسعار، حتى يتحدث نفس الصديق ويقول "بل إنهم يمرضون بسبب كثرة أعمالهم ونقص غذائهم، ولا يجدون مستشفيات لعلاجهم وإن وجدوا ينتظرون فى طوابير طويلة حتى إن الموت قد يأتي أحدهم قبل أن يأتي دوره فى العلاج"، هنا لم أشهق وحدى إنما شهقنا جميعًا ونحن نتخيل تلك الصورة البشعة وحال أناس يمرضون ويصارعون من أجل الحصول على العلاج، حقيقي نحن نمرض، لكن أمراضنا خفيفة ومعظمها أمراض ناتجة عن حالة السكون والوفرة التى نعيشها، نعم.. الأطعمة لدينا صحية تمامًا، الهواء نقى إلى أقصى درجة، الماء مفلترا ومعالجا إلى أعلى درجات النقاء، انتهى استخدام البترول منذ سنوات وحل استخدام الكهرباء فى كل شئ فلا عوادم ضارة على الإطلاق.. فتكاد تختفى لدينا الأمراض. لكن هؤلاء يمرضون؟! يعانون ويبحثون عن الشفاء!! .. مؤكد يشعرون بقيمة المفقود منهم ويسعدون وقت الشفاء، ومؤكد أنهم عند صراعهم من أجل سلامة أجسادهم يشعرون بعناء وفى العناء متعة، يا لهم من أناس سعداء.
أردتُ أن أتوجه إلى أصدقائي بعبارة مهمة لكنى توقفتُ كي أنصت لصديقنا وهو يكمل وما تزال عيناه تسبحان فى عالم يراه ولا نراه فيقول "وأغلب هؤلاء يعيشون فى مساكن سيئة، محشورين فيها كما كانت تُحشر الحيوانات فى الماضي قبل أن تنتصر لها جمعية "شركاؤنا فى الأرض" وتستصدر قوانين معاملة الحيوانات معاملة البشر"، حينما ينتهي من كلماته نُصاب جميعًا بحالة من الخرس، سؤال واحد يرفرف فوق أذهاننا "أيحدث هذا على كوكب الأرض؟!".
إنه الشقاء بعينه .. ومصارعة الشقاء تتضمن الكثير من المتعة التى تحمل معنى الحياة فيتمسكون بها. أدركتُ الأن لِمَ يزهد أبناء مدينتنا الحياة وترتفع نسبة الانتحار سنويًا في معظم مدننا المرفهة..!!
أقف مكاني وأنا أتوجه بحديثي إلى صديقنا "أين هؤلاء القوم يا صديقي .. فإنني ..؟!" وقبل أن أكُمل كلماتي التى كانت "فإنني أود الهجرة إليهم .. فقد سئمتُ المعيشة هنا .. نعم .. أود الهجرة إلى قوم يشعرون بقيمة كل شئ فى الحياة" يقاطعني أحدهم ويبدو أنه قد قرأ من تعبيرات وجهى أفكاري، يقول "الهجرة ليست هى الحل .. المعيشة هنا فى تلك المدينة الملقبة بالمدينة الفاضلة أصبح لا يطاق .. لابد من تغييرها ..".
يسود الصمت ونتبادل النظرات، الآراء تأتى متفقة مع ضرورة التغيير، بعد الاتفاق والتشجيع يظهر السؤال "كيف يتم التغيير؟" .. بعد صمت طال أمده يهمس صديقنا الباحث ويقول "السبيل الوحيد هو التغيير أو الهروب.. الهروب من المدينة الفاضلة".
-- تمت --
السارد في هذا النص انبساطي، يعرف كيف تصاغ الدلالة من منطوقه النصي .
وهو إذ يشتبك - تفعيلا للمكون الخيالي - مع الراوي الفني في بنية النص ؛ فإن مساحة الاشتباك سمحة ، لا يظهر فيها أي قدر من سلطة الناص على ما يطرحه النص من رسالةٍ هي بالدرجة الأولى مما يبعث على الابتسام وانبساط الأسارير .
النص القصصي "هارب من المدينة الفاضلة "صنعة سردية مدهشة الحبك ، حيث أتقن الكاتب رضا سليمان بنوع من المخاتلة الفنية الحميدة مفاجأة المتلقي بأن هناك من يضيق ذرعاً بتلك الرفاهية اللامحدودة ، حيث وفرة متطلبات الحياة في هذه المدينة بقدر ما يضيق ذرعاً أولئك الذين يعيشون حياة بشعة في مدينة مناضلة من أجل حصول ساكنيها على قوت يومهم .
المدينة الفاضلة "لا عناء فيها ولا متعة"ساكنوها يرون في المدينة المناضلة المترعة بالعناء المتعة والسعادة!
ليتهم فكروا في إسعاد ساكنيها بدلاً من حسدهم..
وكأنما يطل برأسه المثل الشعبي الشهير:
" حسدوا الغجر على ضل الشجر" الغجر أناس يترحلون من مكان لآخر ومن بلد لأخرى للحصول على القوت نظير ما يقدمونه من فنون ارتجالية وفلكلورية حرة ، فلا مساكن دائمة تضمن لهم الاستقرار ، بل خيام ينصبونها ينامون فيها ، أو تحت ظل الأشجار إذا ضاقت بهم الخيام!
هي حياة صعبة ، ربما تتماس مع تلك الحياة التي ينشدها المتبرمون من رفاهية مدينتهم الفاضلة .
صاغ الكاتب التناقض بين المدينتين في حضور أجواء الابتسام و الانبساط القرائي للوصول إلى مرامي النص بيسر وسهولة .
الراوي الفني في النص ميسور الحال ، يسكن فيلا فخمة ، وكل متطلبات الحياة تأتيه دون عناء ، فهو غير متعال على شركائه في المدينة الشاملة ، ومن ثم فقد تُرك النص للمتلقي أن يقرأ أهم مقاييس السعادة ، وهو ألا يبحث الإنسان عن الرضا الشامل لأنه غير موجود على الأرض ، وكذلك الصفو التام للحالة المزاجية ، هو بيضة الديك التي مهما تحالف علماء الأرض لإيجادها أو اختراعها ، فإنهم لن يجدوها إلا في عبارة مجازية في غنوة ترفيهية ، تصل بالمستمع إلى أعلى درجات "اليوفوريا" وهي حالة النشاط المرح الذي قد يتصوره الآخرون جنوناً نتيجة شعور الواقع تحت تأثير اليوفوريا بحالة الابتهاج اللامحدود والسعادة اللامحدودة..وهذا ما قد وصل إليه سكان أهل المدينة الفاضلة فقرروا البحث عن مدينة أخرى ، تحقق ذاتهم ، في البحث عن لقمة العيش والتعب ولعق الصبر ، وتلك هي وجهة نظرهم ورؤيتهم للرضا عن الحياة .
ولعل هذا ما يفسر ارتداء بعض الشباب من الأسر الميسورة للملابس الممزقة من على الركبة ، ومناطق أخرى من الجسد .
لغة النص ولاؤها للذات الإنسانية ، لا تتسم بالطابع الناري الانفعالي ، إذ نجد ما يُفهم منه إمكانية اختلاف الإنسانية في فهمهم لما يتضمنه الشعور بالرضا التام .
وهذا نوع من الأدب النقدي الساخر الذي يلفت نظر علماء النفس - الاجتماعي السسيوسيكولوجي لدراسة وتحليل أبعاد و أسباب مثل هذا الأمر .
النص غير مكتئب ولا يدعو للاكتئاب بل يؤكد على أن الرضا الشامل في الحياة غاية لا تدرك ولن تدرك..وبارك الله فيما رزق.
التعليقات