في عام 1933 قررت سيدة بريطانية في الخامسة والستين من العمر القيام بفعل غير مسبوق وهو أداء مناسك الحج. ربما يبدو الأمر عاديا لا غرابة فيه اليوم لكن في زمنها كان أمرا غير معتاد لا لكونها امرأة فقط بل لكونها أوروبية حديثة العهد بالإسلام. الليدي إيفيلين كوبولد سليلة عائلة أرستقراطية من عصر الملكة فيكتوريا أحبت الترحال والجزيرة العربية. اصطحبها أبوها منذ نعومة أظفارها فأحبت الحضارة العربية ولغتها. أما عن اعتناقها الإسلام فهي نفسها لم تعلم تاريخا محددا له فبحسب قولها (كثيراً ما يسألني الناس متى ولماذا اعتنقت الإسلام. لا أملك إلا الاعتراف بأنني لا أعلم يقيناً متى بزغ علي نوره فيبدو أنني كنت مسلمةً طوال عمري. وليس هذا بغريب إن علمنا أن الإسلام هو الدين الفطري الذي سيعتنقه أي طفل إن تركت له حرية الاعتقاد).
بدأت رحلتها من مصر مرورا بجدة حتى وصلت لغايتها ووطأت قدماها الحرم المكي. في كتابها بنسخته العربية والذي صدر حديثا وترجمته عن دار السراج المصرية بعنوان (من لندن إلى مكة) تحكي لنا يومياتها في رحلة العمر. تتأمل الأماكن والجغرافيا وتغوص معنا في التاريخ. لغتها بسيطة وتفاصيلها غنية. وضعت نصب عينيها القاريء الغربي الذي تستهدفه من كتاباتها فتحدثه بلغته وبطريقة تفكيره. بسطت المعلومات الدينية وشرحتها في سلاسة حتى يسهل عليه فهم ما تعنيه ومتابعة أحداث رحلتها.
انبرت للدفاع عن المرأة العربية من التهم الغربية التي تكال لها (عن جهل بكل ثقة) كما جاء وصفها في الكتاب. عاشت ضيفة كريمة في بيوت عربية احتضنتها بحب وعاملتها بكل صدق فرأت حال النساء من الداخل دون تجميل أو إدعاء فكتبت دون تملق لتزيح الستار عن الغموض الذي يغلف مصطلح (الحريم) في الجزيرة العربية.
لا يعد كتاب (من لندن إلى مكة) مجرد كتاب أدب رحلات يُعني بوصف الأماكن والجغرافيا لكن تتطرق فيه كاتبته للتأمل فيما حولها وتزينه بالمعلومات المتنوعة تاريخيا وأدبيا. تتسع أعيننا ونحن نقرأ عن المملكة العربية السعودية في بداية تأسيسها وفي زمن ما قبل اكتشاف البترول وتبدل حالها من صحراء شاسعة إلى مملكة مزدهرة غنية. بينما ركب الحجيج الجمال والهوادج حظيت الليدي إيفيلين بسيارة فورد قوية جابت بها القفور والجبال ولم تبخل بها فاصطحبت معها في رحلتها رفقاء طريق أعانتهم على رحلة حجهم.
غلبت عليها عاطفتها الجياشة فذكرت بعضا من أبيات الشعر العربي والمواقف التاريخية مما يدل على إلمامها الجيد بالموروث الثقافي العربي آنذاك. لعل ما يميز رحلة حج الليدي إيفيلين أنها قامت بها وحدها في زمن لم يعتد أهل الجزيرة العربية على رؤية المرأة تخترق القواعد وتحقق ما تريد بعزم وإصرار. رحلة حج أول امرأة بريطانية توثيق هام لفترة مهمة في تاريخ المملكة العربية السعودية ونظرة يومية متفحصة على مدار شهرين من الحياة العربية التي تختلف جذريا عن حياتها في لندن واسكتلندا مسقط رأسها تطلعنا على مفردات مختلفة تحملتها في حب وفاعلت معها في صبر وحماسة.
ولأختم كلامي بختامها (عدت لبيتي الصغير تحيطني تفاصيل حياتي التي اعتدت عليها. أتراني كنت أحلم طوال هذه المدة؟! هل كانت ليلة من حكايات (ألف ليلة وليلة)؟! تكفيني نظرة لدفتر مذكراتي لأدرك أن كل هذا كان حقيقة مطلقة. لن يستطيع الزمان محو الذكريات التي حفرت في قلبي. ستظل بساتين المدينة وسكينة الجوامع وآلاف المصلين الذين مروا عليّ وأعينهم تفيض من الدمع تبتلاً وخشوعاً حاضرة في ذهني. لن أنسى عظمة وجلال المسجد الحرام في مكة ولن أنسى رحلة الحج في الصحراء قاصدين جبل عرفات. ستحمل روحي للأبد متعة الرضا والسعادة التي غشيتها. لم تحمل لي الأيام السابقة إلا الخير، والجمال، والدهشة. لقد اكتشفت عالماً جديداً مذهلاً)
التعليقات