شريط سينمائى بسيط، ليس لديه نجوم شباك ولا يراهن على شىء أبعد من إثارة الابتسامة المباشرة على الشفاه، المخرج وائل إحسان عقد مع الجمهور منذ كتابة (التترات) تلك الوثيقة، لا تنتظر الكثير، ولكن دعنا نتفق أولًا على شروط اللعبة، إننا نلعب معًا، وكان مدركًا هذه المرة أنها مجرد لعبة.
وائل أحد أهم مخرجى الكوميديا الذين لمعوا في مطلع الألفية الثالثة مع (اللمبى) و(اللى بالى بالك) و(الباشا تلميذ) وغيرها، إلا أنه مع الزمن فقد شيئًا من حضوره، كمخرج قادر على تحقيق أهم شىء، وهو قراءة الجمهور، وإشعال فتيل الضحك، جزء من أفلامه ومسلسلاته، في مجملها لم تحافظ على درجة السخونة الجماهيرية. شاهدت له قبل نحو شهرين أو ثلاثة على أكثر تقدير فيلمه (مطرح مطروح)، بطولة محمود حميدة وكريم عفيفى، المفروض أنه يقع تحت مظلة الكوميديا، شعرت بالمعاناة من أجل استكمال المشاهدة، الشريط فقد بوصلة التواصل مع الناس، كل ما اعتقد أنه يدخل تحت طائلة قانون الضحك لا يمكن أن يثير سوى النفور، المأزق ليس هنا تحديدًا، ولكن في الإحساس الذي صدّره لنا الفيلم بأن تلك المشاهد والمواقف قادرة على زغزغة المشاهد، ولم أكتب وقتها عن (مطرح مطروح) لإحساسى أن الجمهور لم يكن أساسًا في دار العرض، وسألت نفسى: لمَن أكتب إذن؟، لا يوجد شهود عيان على تلك الجريمة النكراء، واعتبرت كأن شيئًا لم يكن.
عندما قرأت هذه المرة اسم وائل إحسان على فيلم (عصابة عظيمة) لم أتوقع الكثير، ولكن فقط من حقه أن أشاهد التجربة الجديدة، بدون انطباع سلبى مسبق.
الشريط السينمائى يدخل في إطار سينما الميزانية المحدودة، أنتجته إسعاد وفقًا لهذا القانون، الأبطال أيضًا من أصحاب الأرقام القليلة في الأجور، تم تسكين الأدوار على هذا النحو، ليس مهمًّا اسم الممثل، الأهم هو أن أجره في المتناول، إلا أن الأمر في النهاية على الشاشة قال شيئًا آخر، مثلًا المطرب الممثل عنبة كان لافتًا، ومقنعًا في أداء دوره، بينما فرح الزاهد ورنا رئيس لا تزال كل منهما بحاجة إلى ورش للتدريب للتخلص من حالة التنميط التي صارت ملازمة لهما، وتلك قطعًا أيضًا مسؤولية المخرج، بينما كريم عفيفى أُتيحت له العديد من الفرص المتلاحقة لخلق نجم كوميدى قادم، إلا أنه حتى الآن لم يتحقق، لا يزال يسكن تلك المنطقة المتوسطة بين القبول والنفور!!.
تؤدى إسعاد يونس دور الجدة الضريرة، التي تواجه بخفة ظل كل المحاذير التي يتحداها الكفيف، وأتصور أن إسعاد استمدت شيئًا من تلك الملامح من خلال صداقتها بالموسيقار الراحل عمار الشريعى، الذي كان يمارس كل شىء نعتقد أنه مقصور فقط على المبصرين، من إصلاح الأجهزة الكهربائية، إلى التصوير الفوتوغرافى، يُحيل كل شىء مرئى إلى معادل مسموع، وهكذا قدم السيناريو الذي كتبته هاجر الإبيارى، في بداية الأحداث، علاقتها مع حفيدتها الطفلة خفيفة الظل لوسيندا سليمان، التي تخفق في التنشين بالسهم على اللوحة، ولكن إسعاد تتمكن ببساطة من إصابة الهدف، لا يوجد مجال لأى إحساس بالإشفاق على الجدة الكفيفة، فهى لا تعانى أي إحساس بالاحتياج أو النقص أو الشفقة، بل هي التي تمنح الآخرين كل القوة.
الكاتبة السينمائية الجديدة هاجر الإبيارى، لم تقدم في تتابع المشاهد لمحة مبتكرة، هي فقط كررت المقرر، ورغم ذلك لن تشعر بالملل، الحضور الطاغى لمحمد محمود أسهم في تأكيد تلك الكيميائية مع إسعاد يونس، كوّنا (دويتو) له خصوصية، وهما ينتقلان من موقف إلى آخر، لا يخضع السيناريو لمنطق واقعى تستطيع من خلاله مراجعة الأحداث، ولكن قانون الفيلم كما هو على الورق، يتجاوز تلك الحالة الواقعية، وهو ما كان يفرض على وائل إحسان من خلال الصورة تقديم معادل سينمائى مرئى ومسموع مغاير لتلك الحالة المباشرة في التعبير التي شاهدنا عليها الفيلم.
المخرج لم يستثمر أيضًا عارفة عبدالرسول، التي أدت دور والدة (عنبة)، رغم أنها في أولى مشاهدها أثبتت أنها كوميديانة من الطراز الأول، إسعاد يونس تقدم دورها بحالة من الألق، لم تبتعد عن السينما، شاركت مؤخرًا في العديد من الأفلام، ربما كان الصحيح أنها في هذا الفيلم تعود إلى البطولة متصدرًا اسمها (الأفيش) و(التترات).
كثير من الأفلام، بل هي تشكل المساحة العظمى في الإنتاج، في العالم، تكتفى فقط بتقديم التسلية، وتتلقى عادة القسط الأكبر من الانتقاد، رغم أن الأَوْلَى بذلك هو تلك الأفلام التي تتصدى لقضية تبدو ظاهريًّا عميقة، بينما واقعيًّا (نسمع جعجعة ولا نرى طحنًا)، ولا تجد شيئًا أبعد من مجرد تلك الحالة الزاعقة الخطابية.
فيلم (عصابة عظيمة) يداعب الرقابة المصرية، عندما يكتب على الشاشة أنه بعد ثلاث سنوات من الجريمة، تم إلقاء القبض على العصابة، وفى التعليق التالى يؤكد أن هذا بناء على تعليمات الرقابة، التي ترفض أن تنجح جريمة بعيدًا عن التجريم القانونى.
قد تراها مجرد طرفة، ولكن مَن يقترب من عقول رقبائنا في هذا الزمن، يوقن تمامًا أن الواقع الذي يواجهه السينمائى مع رقابتنا الميمونة يحتاج إلى موقف.
التعليقات